العدد 18 يوليو 2004
نقد الذات الشيعية
الشيعة وثنائية الدين والدولة
فؤاد إبراهيم
مقدمة
إن فجر التحولات الفكرية ينبلج لحظة خضوع حقل اليقينيات
للمساءلة العقلانية والواعية، أي حين تكون النواة الصلبة جاهزة
للفحص بعد أن كانت تحيط نفسها بحزام أمن يمنع الاعتراض على جزئية
أو أجزاء منها. وشأن كافة المذاهب المغلقة، فإن التشيع أضفى،
فيما مضى، قداسة على الحجج الآمنة أو الدفاعية الملحقة، بحيث كان
يخشى معتنقوه إخضاع مضامين المذهب المنقولة من المصهر العقلي
الاجتهادي للاختبار بما يؤول الى انفراط العقد وتفكك المنظومة
بشكل متسلسل. إن تحوّل التشيع من كونه مذهباً ساكناً في لحظة
واعتراضياً في لحظة أخرى، وأخيراً الى مذهب دولة بعد إنتصار
الثورة الاسلامية الايرانية عام 1979 قد حرّك دون ريب الحواضر
العلمية الشيعية كيما تنشغل بنشاطية غير مسبوقة سعياً وراء
العثور عن إجابات لأسئلة، غير قابلة للتأجيل، تضخها الماكينة
الدولتية.
ومما لا شك فيه أن الخطاب السياسي الشيعي بصيغه المحدّثة
والتوافقية الى حد كبير يفتح إمكانيات موحية جداً لنمو خطاب يمكن
تفسيره بوصفه رشداً سياسياً ومعرفياًًَ، إذ لن يكون إتجاه حركته
نحو الماضي ورسائله، بل سيكون محكوماً ومشغولاً بالمعطيات
المعاصرة.
واذا كان شيعة الماضي يفدون الى مضمار عصرهم في إطار متأرجح على
أساس أن ثمة ميراثاً ميتافيزيقياً يتحين فرصة الانصراف بهم عن
واقع يوجهه نداء خط إنساني مشهود لعالم يرتد بهم نحو الموروث بكل
إحتجاباته المفزعة وارتكاساته المباركة من النقل والاجماع
الصامت، وما يمليه من عزوف جزئي أو كلي عن اللحظة المعاشة كما
تقع في الزمان والمكان، فإن شيعة اليوم منغمسون في تأجيج الوعي
باللحظة الحاضرة عبر نشاط تأويلي محموم للموروث من أجل شرعنة
الانتقال الجماعي الى الامام.
هذا المتحوّل يحثّ على الزعم بقدر من الاطمئنان الى أن منعطف
الفكر السياسي الشيعي الحديث بدأ من الناحية العملية لحظة
الانتقال من السكون الى الحركة، أي من الانتظار الى الاعتراض
بلغة د. شريعتي، وتالياً وفي مرحلة لاحقة من صعيد الثورة كآلية
في العلاقة مع الواقع السياسي القائم المراد قلبه رأساً على عقب
حيث لا يوجد الا نموذج الدولة الدينية المحكومة بالشريعة الى
الصعيد البراغماتي أو الدي فاكتو حيث يكون التعايش والقبول بمنطق
المساومة بين الجماعات وصولاً الى إنجاز تسويات سياسية متكافئة
ومرضية، هو المسألة المهمة.
بكلمات أخرى، لقد أملى قيام الدولة بكامل المفاهيم المنوطة بها
والمرسخة لركائزها التعامل مع ممليات الواقع، أي التعامل مع
المنظومة الفكرية الشيعية باعتبارها وسيلة لاعطاء الواقع شكلاً،
ومعنى، أي ايديولوجيا لفهم الحاضر وتفسيره وتبني أو تخلي عن
مواقف وأفكار تفرضها ظروفه.
ولربما يمثل أهم منجز حققه السيد الخميني الى جانب قيادته لواحدة
من أعظم الثورات الشعبية في القرن العشرين هو كسر النسق التاريخي
والمعرفي داخل التشيع، وتطويره تشيعاً منفتحاً ومتحركاً وبالتالي
غير غارق في الماضي، بل مؤهل للتناقض والتجاوز مع المألوف
الشيعي.
الوطن المؤجَّل
ثمة نزعة اسكاتولوجية ضارية لدى عموم المجتمع الديني بطوائفه
المختلفة، وهي كثيفة الحضور في الوعي الديني الاسلامي عموماً.
فمنذ انهيار الخلافة العباسية سنة 656 هـ بدأ التنظير للخلافة/
الامامة العظمى/ الامة/ الطوبى تماماً كما سبق أن قرّ في الوعي
الشيعي بعد غياب الامام المهدي عام 329هـ بأن الدول القائمة باتت
مسلوبة الشرعية لعدم إمكانية تحققها وأن ثمة أمة منتظرة يراد
تشكيلها بظهور المنقذ. فالجميع يتطلع الى وطن مؤجّل يمثل
اليوتوبيا الدينية المؤمل تحقيقها في آخر الزمان على يد مصلح
ديني يبعث أو يولد في المستقبل.
مع التذكير بأن السلالة الجديدة من المفكّرين الاسلاميين بدأوا
في تحدي اليوتوبيات السنيّة والشيعية فزعمواً بأن أفكارهم تستند
الى المفهوم الأولي والمبكر للخلافة، قبل أن تتعرض للانقراض
والانحطاط عن طريق خروجها من البيت الهاشمي لدى الشيعة وتحوّلها
الى ملك عضوض على يد بني أمية لدى السنة، ولذلك رفضت سلالة
المؤدلجين الدينيين أن يكون الدين تابعاً للحاجات السياسية، أو
الدولة وقالوا بأنه بدلاً عن ذلك فإن السياسة يجب أن تكون تابعاً
للدين. فالاسلام في وعي هذه السلالة هو دين إيمان وعدل وإزدهار
وفقه وشريعة وحياة، وعبر تطبيق الشريعة فإن بإمكان المسلمين ترك
الجاهلية والانغماس في العصر الذهبي للنبي والخلفاء الراشدين.
ولكن ما تسبب في فشل هذا المسلك هو نكران حقيقة كون الشريعة ليست
كتلة ثابتة ونصاً نهائياً للقانون السماوي الموحى، بل كانت عرضة
للزيادة والنقصان والنسخ والاضافة عبر التاريخ الاسلامي عن طريق
الاجتهاد، فهؤلاء يعتقدون خطئاً بأن جانب الفقه يمكن أن يتساوى
مع جانب الشريعة بمعنى النص الألهي.
إن الدولة في الوعي الاسلامي العام هي كيان جغرافي مفتوح، أي
ممتد الأفق وأن حدود الكيان يتعيّن وفق معيار ديني وليس سياسي،
أي أن الانضواء تحت لواء الدولة يتم عبر الايمان بقيم الاسلام
وشريعته، وهذا من شأنه الاطاحة ـ نظرياً على الأقل ـ بالحدود
المرسومة حالياً بين الدول في العالم الاسلامي، على اعتبار أن
دولة الاسلام قائمة بالمؤمنين به وليس بإطارها الجيوبوليتيكي،
وبهذا التفسير فإن الدولة مؤسسة على المبادىء الكونية للاسلام
لحماية الدين وإيصال رسالته للعالم.
على الضد من ذلك، فإن ثمة تصنيماً خفيّاً للدولة يطوي الممانعة
الظاهرية للدولة باعتبارها ظاهرة علمانية وحديثة، فقد تحوّلت
الدولة القومية الى هيكلية معيارية بالنسبة للمنظّّر الاسلاموي،
تماماً كما هي معيارية لغير المسلم أيضاً. فالدولة قادرة على
تجسيد قلة من الافكار الدينية في مجال العدالة الاجتماعية، وفرض
التراتب القبلي أو التسلط العسكري أو كليهما معاً. وبهذا فإن
الدولة الوطنية في الاسلام هي أيديولوجية وليست مفهوماً
اقليمياً، على حد لامبتون، بما يملي الاعتقاد لدى منظّري الدولة
الحديثة بأن مفهوم الدولة بقي أجنبياً لدى المسلمين كونهم
يتحدّرون من مجتمع قبلي والذي يتوحد أفراده لا على أساس المواطنة
بل الدم، وأن الدين أضفى لونه الخاص على النظم التقليدية بالرغم
من تبني مفهوم مرن للكيان السيادي المطلوب تشكيله كيما ينضوي فيه
المؤمنون.
إن دولة ـ الامة وان مثّلت يوتوبيا دينية لدى المتماثلين
أيديولوجياً الا أنها تصبح ممقوتة حين توضع في سياق قسمة الغنائم
والمسؤوليات بين أفراد هذه الدولة ـ الامة. للتمثيل، فإن مواطني
الدول القطرية الثرية ينفرون من خيار الانضواء في كيان جيوسياسي
آخر يسلب منهم ما في أيديهم من امتيازات مادية ومعنوية، بعكس
مواطني الدول القطرية الفقيرة، الذين سيؤدي اندماجهم في كيان
كبير الى تحسين ظروفهم المادية، وهذا بالدقة ما نقصده بتصنيم
الدولة القطرية من قبل رافعي لواء دولة ـ الامة، في الدول
الغنيّة.
مما سبق نقترب قليلاً من جوهر المشكلة المراد تشخيصها، فالصراع
الخفي أو المعلن بين الدين والدولة قد ولّد طيفاً من الاشكاليات
المتصلة نهائياً بالعلاقة بين الفئات الاجتماعية غير المتجانسة
من جهة وبينها وبين السلطة، ولذلك كانت المحاولات محمومة من أجل
تحقيق الانسجام الديني والسياسي داخل الدول القطرية، درءا
لانقسام الانتماءات والولاءات.
التشيع الصفوي والتوهيب السعودي
قد تبدو المقارنة بين نموذجي الدولة الصفوية والدولة السعودية
ذات أهمية جوهرية كيما نضع الاصبع على نقطة الافتراق الاولى في
موضوعة الهوية ومتوالياتها (الانتماء، الولاء، الطاعة..الخ).
لاريب أن شروط قيام الدول متباينة، وليست الدول باللتي تخضع
لمنطق الاستنساخ، ولكن المقارنة تبدو ممكنة حين يضم طرفا
المقارنة متشابهات تسهّل مهمة فهم وتحليل مشكلة ما داخل المجال
الواحد، أي الدولة.
ان عنصر الهوية في الدولة مندّك في صميم العلاقة بين السلطة
والمجتمع، ومن مكوّنات هذه العلاقة تسبغ الهوية على الدولة. إن
الدول التي فشلت في انتاج هوياتها الوطنية لابد أنها عجزت عن
تحقيق الانسجام الثقافي والاجتماعي بين الفئات السكانية، وأخفقت
في مشروع الاندماج الوطني، أي في استيعاب ممثلي الفئات
الاجتماعية داخل الجهاز الاداري. إن مثل هذا الاخفاق يرسم مسافة
فاصلة بين الدولة والوطن، أي يبقي على الدولة في حدود السلطة
وينفي عنها صفة الوطن كحاضن لأمة متجانسة، بالمعنى الاثني وليس
الديني.
هذا التكثيف الشديد لجوهر إشكالية الهوية يصلح كمدخل للمقارنة
بين نموذجين متقابلين: ايران والسعودية، وهما نموذجان شرعا في
الاقلاع نحو تشكيل هويتهما الحديثة في ضوء شروط وظروف شبه
متقاربة.
فمن الناحية التاريخية لم تكن ايران شيعية قبل قيام الدولة
الصفوية، ولم تكن دولة بالمعنى الجيوبوليتيكي والقومي، ولذلك
أصبح التشيع أيديولوجية دينية وقومية لايران، فكان التشيع مصدر
شرعية للدولة ومكّوناً أساسياً من مكونات الهوية الوطنية،
وبالتالي فإن ثمة تطابقاًَ فريداً بين مشروعي التشيع والأرننة
على يد السلالة الصفوية. فقد ولد المذهب والوطن في لحظة واحدة
عام 1501م. لقد أنتج التشيع وطناً ايرانياً وانتج الاخير مذهباً
شيعياً على الطريقة الايرانية، فلم يعد هناك ما يفصلهما عن بعض
لأنهما يستمدان قوتهما من التماهي الشديد بينهما. وبحسب جون
اسبوسيتو وجون فول فإن (التشيع كان مندّكاً في الهوية الايرانية
ومصدر الشرعية السياسية منذ القرن السادس عشر، حين أعلن لأول مرة
عن التشيع باعتباره دين الدولة في ايران).
إن التطابق بين حدود الامة وحدود انتشار المذهب لا ريب أفضى الى
بناء الكيان واستقراره وتماسكه وتالياً أضعف الى حد كبير فرص
الانقسامات على قاعدة مذهبية وحتى قومية للتعالق الشديد بين
المذهب الشيعي والقومية الايرانية. يقول بروس لاورنس (لم يواجه
الايرانيون مشكلة تعريف الوطنية على الاطلاق، سوى من أجل كسب
الحرية. فمنذ القرن السادس عشر الى القرن العشرين، فإن قياداتهم
قبلت بهوية ايران بوصفها تظافر إثني ـ ثقافي ـ ديني. فالقومية
الشيعية كانت الدين لغالبية الذين حصلوا على السلطة أو مارسوا
النفوذ في ايران، سواء كانوا قادة علمانيين أم علماء دين). لقد
صبغ المذهب والوطن البقعة التي يقطنها السكان الايرانيون، وباتا
عاملا توحيد سياسي وديني، وبهما تشكّلت الهوية القومية للفئات
السكانية، وبهما أيضاً تمت عملية دمج وطني واسع في البنى
الثقافية والاجتماعية والدينية، ثم تم صهّر هذه العناصر مجتمعة
في الرأسمال الحضاري والتاريخي الايراني، وصولاً الى تشكّل وحدة
وطنية ودينية شديدة التماسك.
حين نأتي على التجربة السعودية، فإن المذهب كان عامل توحيد في
منطقة نجد حيث أمكن به بناء جبهة فوق قبلية متجانسة على أساس
مذهبي، ولكن في الوقت نفسه كان المذهب عامل تقسيم على المستوى
الوطني، ليس لأن المذهب لم يكن يملك من عناصر الاقناع او القوة
بحيث يكون قادراً على مجابهة الميول المذهبية النشطة في المناطق
الاخرى وبخاصة في المنطقة الشرقية لدى الشيعة والمالكية وفي
الحجاز الصوفية والشافعية وفي الجنوب الاسماعيلية، بل لأن المذهب
الرسمي غير تاريخي وغير وطني، أي غير قادر على إنضاج شروط
التكوين الوطني. إن ما حققه التشيع في ايران عجز المذهب الوهابي
عن تحقيقه في شبه الجزيرة العربية، ولعل ادخال العنصر السعودي
السلطوي زاد في تعقيد بناء الأمة، لأن الايديولوجيا الدينية لا
تقدّم مستقلة عن عناصر اخرى شديدة السطوة والنشاطية، وإنما هناك
التقاء عناصر في ثالوث (المذهب ـ المنطقة ـ العائلة) وهو يجعل
بناء هوية فوق ـ مذهبية، وفوق ـ اقليمية، وفوق ـ عائلية/ قبلية
غير قابلة لانجاز مهمة بناء الوطن القومي لسكان يتحدرون من
انتماءات مذهبية ومناطقية وإثنية غير متجانسة.
ولعل ما يزيد الأمر تعقيداً أن الدولة ضيّعت فرص تشييد الوطن في
لحظات تاريخية غير قابلة للتكرار. فقد قابلت تزايد المد الوطني
والقومي في الستينيات باطلاق موجة دينية عالية ولكنها ذات
تمظهرات مذهبية موغلة في الاقصائية والقطيعة مع الآخر، وقد
استمرت هذه الموجة حتى وقتنا الراهن، وبذلك أسهمت في تعزيز
الانتماءات المذهبية والهويات الفرعية. إن الانفجار المذهبي الذي
وقع في مطلع الثمانينيات ترك تأثيراته المباشرة على العنصرين
التاليين: العائلة المالكة والاقليم النجدي حيث تم اخضاعهما
لمقاييس شديدة الخصوصية لا تصلح كمكوّنات أمة، بفعل التناوي (أي
توحد أنوية) بين الاقليم والمذهب والطبقة الحاكمة.
ويلزم التشديد هنا على الدور التقويضي لأسس الوحدة الوطنية الذي
يضطلع به الخطاب الديني المبثوث عبر مناهج التعليم، والارشاد
الديني العام، وأجهزة القضاء، ووسائل الاعلام.. هذا الخطاب حين
يوصم شريحة واسعة من السكان بالالحاد وينمي مشاعر الكراهية
الدينية والانقسام بين السكان يفتت في تواصل مع انبثاث هذا
الخطاب كل مبرر وإحساس وحدوي لدى الفئات المراد غرس مشاعر الولاء
للدولة فيها، لأن الوحدة تصبح منبوذة كونها توظف لخدمة غرض
الاقلية الحاكمة، فيما تصبح الاغلبية خاسرة من وحدة كهذه.
حين تصبح الوحدة مشروطة بقلب المعتقدات واستبدالها تكون وحدة
قهرية، اي نقيضاً لحق الاعتناق الحر ولمبدأ الوحدة ذاته. فالخطاب
الديني يشترط في الحوار الداخلي اعتصام الجميع حول مبادىء
الاقلية الدينية الحاكمة، كما يشترط في الوحدة الدينية والوطنية
جحود الفئات الدينية الاخرى بمعتنقاتها والانضواء التام والكلي
في المعتقد الرسمي الغالب.
الثورة الايرانية: رؤية متوازنة
فتحت الثورة الايرانية نافذة أمل واسعة لدى مجاميع شيعية تطمح
لأن (تُنَمْذِجْ) التجربة الايرانية في بلدانها عبر ثورات
متلاحقة تفضي في نهاية المطاف الى نشوء دول اسلامية يقودها
العلماء. هذا ما صنعته الثورة الايرانية بدء انتصارها كطموح
سياسي ولكن ما أحدثته في الوعي الشيعي العام يبدو أبلغ في
الاهمية. إن واحدة من أهم تداعيات الثورة الايرانية يكمن في عنصر
المباغته ليس في الواقع السياسي الاقليمي والدولي فحسب بل في
الوعي الشيعي بدرجة أساسية، فالحدث الايراني كان يمثل بالنسبة
لعموم الشيعة انتقالاً راديكالياً فجائياً في الحركة المجتمعية
والتاريخية الشيعية، أي انتقال من الرفض الاجمالي للواقع الى
الانغماس التام فيه، أي من غصبية الدولة القائمة الى وجوب
إقامتها. إن هذه الهوّة السحيقة التي حدثت بين الاستقالة عن
الواقع والتماهي فيه بدرجة عنيفة معبراً عن نفسه في رفض شرعية
الدولة الدنيوية غير الخاضعة لولاية المعصوم (= المهدي) الى وجوب
اقامة الدولة وبطريقة ثورية حرمت الشيعة وبخاصة علمائهم من
التنظير لفكر سياسي/ حقوقي/ دستوري اي فكر خاص بوطن ودولة..
فالانتقال الدفعي الفجائي كان عاصفاً، ولذلك فإن ما نلحظة طيلة
عقدين من الزمن هو مجموعة طروحات ثورية لدولة الفقيه، ولكن دون
ذلك لم نجد الا لمماً وإشارت عن العلاقة المتصوّرة للشيعة مع
حكوماتهم أو الدور السياسي الذي يجب أن يضطلع به الشيعة في ظل
أنظمة مصنّفة بأنها غير شيعية أو حتى غير دينية.
بكلمات أخرى، لم يطوّر الشيعة منذاك مفاهيم حول التعايش،
التعددية، التسامح، المواطنة، المشاركة، الموقف من الرأي الآخر،
والعلاقات المفترضة بين الحركات الثقافية والاجتماعية المختلفة
في الدولة الواحدة.. فحزمة المفاهيم هذه قد جرى مقاربتها في
السنوات الاخيرة أي حين بدأت الخارطة السياسية الاقليمية تستعيد
الثبات المنهوب منها بفعل التحولات السياسية الاقليمية، وخصوصاً
بعد وقف الحرب العراقية الايرانية في أغسطس 1988 وتراجع الأمل
بسقوط النظام العراقي من خلال آلة الحرب. لقد بدأت الميول
البراغماتية والعقلانية في التبرعم داخل الحركات الاجتماعية
الشيعية في المنطقة العربية، وتتجه الى إعادة قراءة التراث
الشيعي سعياً وراء تطوير مفاهيم جديدة تعين على إرساء أساس مختلف
للعلاقة بين هذه الحركات وحكومات البلدان التي يتحدرون منها.
إشكالية الشرعية: قسمة السياسي والديني
إن الاغراء الناشىء عن الانبهار بالانتصار الثوري الايراني لجهة
تكرار التجربة والذي فجّر معه الطاقة الثورية الخاملة في التشيع
لحقه تطوّر آخر غاية في الاهمية، فقد نبه الشيعة أول مرة الى
إمكانية تحقق شرعية فرعية مندرجة في الشرعية الكليّة الممثلة في
المعصوم، ثم نبّه الحدث في وقت لاحق الى إمكانية تولّد شرعية
أخرى منفصلة عملياًً عن خط الولاية الالهية (النبي ـ الامام ـ
الفقيه). ربما لم يتنبّه الشيعة في بداية الأمر الى أن النموذج
الايراني غير قابل للاستنساخ والتصدير بحكم الشروط الذاتية
والخصوصية الحضارية والثقافية الايرانية غير القابلة للتنميط،
ولكن المنطق البراغماتي أملى على المنظّر الشيعي إعادة بناء
الاسس النظرية لفكرة الدولة الشرعية منفصلة عن المناخ الايراني
وسطوة التأثيرات المنبعثة منه. وفي عملية تسوية هادئة جرت قسمة
الشرعية الى نصفين:
ـ الشرعية الدينية: الحكومة الالهية
ـ الشرعية السياسية: الحكومة العادلة او الحكم الصالح
إن الرؤية المثالية الدينية تقضي بارتفاع الشرعية الدينية مع
غياب الامام المهدي لدى الشيعة وسقوط الخلافة لدى السنة،
وبالتالي فإن منجز دولة ـ الأمة، بوصفها النصاب الشرعي المكتمل
غير قابل للتحقيق حالياً، بما يملي قدراً من التنازل كضرورة
زمكانية لحفظ النظام والمصالح العامة.
بالنسبة للشيعة في السعودية، فإن الشرعية الالهية كما توطّّنت في
الموروث المذهبي مستحيلة، وتبقى شرعية الامر الواقع، أي وجوب
وجود النظام حيث يكون الناس في ظله (أكثر صلاحاً وأقل فساداً)
حسب الشيخ المفيد. وهذا وحده يصلح مبرراً شرعياً وسياسياً صلباً
للطاعة والولاء للنظام السياسي القائم.
قد يقال بأن الحكومة بالمعنى القانوني الدستوري، اي حكومة العدل،
لم تر النور في شبه الجزيرة العربية، وبذا لم يفلح النظام
السياسي في إقناع رعاياه بجدارته كنظام يكثر في ظله الصلاح ويقل
فيه الفساد، وبالتالي فإن الشرعية في بعديها الديني والسياسي ظلت
غائبة، وهو زعم يملك من الوجاهة ما يستحق وقفة تأمل، ولكن يبقى
الحديث حينئذ عن امكانية توليد شرعية سياسية مشروطة محثوثة
بإمكانية ترميم البناء المتهدّم في العلاقة الداخلية بين الشيعة
والحكومة، وهي مهمة يجب أن تسير جنباً الى جنب مع عملية ترميم
واسعة النطاق بين الحكومة وباقي الفئات الاخرى في المجتمع التي
أصابها الحيف والحرمان.
السيادة والولاء: الدولة او المرجعية
الروايات الواردة والموظّفة في التأسيس الشرعي النظري للمرجعية
الدينية تدور في المجالات التالية:
الاول:
مجال الافتاء الفقهي، أي ابلاغ الاحكام الشرعية للعامة/
المقلّدين.
الثاني:
مجال الروايات للمجتهدين.
الثالث:
مجال ملء الفراغ، من خلال استنباط الاحكام من الكتاب والسنة في
الموضوعات المستحدثة غير المنصوص عليها حكماً.
وبمرور الوقت، فإن هذه المجالات قد أعيد تعريفها وتطويرها بحيث
باتت مساحة الفراغ تمتد الى الشأن العام وبخاصة السياسي لتضع
الفقيه مركزاً في هذه المساحة والمحوّر الذي تدور حوله شروط ملء
الفراغ، ليخلص التعريف النهائي لولاية الفقيه بتنصيبه حاكماً
مطلقاً على الامة بالنيابة عن الامام المعصوم في زمن الاستتار.
يكتسي الغموض علاقة المرجعية بالعمل السياسي منذ تقرر مدّ الحدود
المرسومة لولاية الفقيه. في التنظير الحزبي هناك من يضع تأطيراً
افتراضياً للعلاقة بين الفقيه والعمل الحزبي، وقد نجد في أدبيات
حزب الدعوة الاسلامية أن ولاية الفقيه تنحسر في المرحلة
التغييرية ذات الطابع الفكري تأسيساً على كونها تمثل تعبيراً
متطوّراً لمبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي يستوعب
عموم الافراد دونما ضرورة لتحصيل الاذن المسبق من الفقيه، ولكن
تتأكد الولاية في المرحلة الثانية حين تخوض المجاميع الدعوية
معترك الصراع المسلح وتبدأ العمل الجهادي واراقة الدماء وصرف
الحقوق الشرعية.. ومع ذلك فإن ثمة استدراكاً دعوياً يبقي على
موقف تراجعي نحو خط ولاية الفقيه حيث أن (إختصاص الحاجة الى
ولاية الفقيه ببعض الحقول لا يعني عدم نفوذ أمر الفقيه "لو أمر"
في باقي الحقول). ولذلك غادر الحزب موقفه السابق، وفتح أفق
الولاية من داخل الحزب الى خارجه ومنح ولي الفقيه اشرافاً
مباشراً على نشاطاته، وفي هذه النقطة على وجه التحديد كان مركز
الزلزال الذي نجم عن تشققات داخل بنية الحزب، وصولاً الى تبعثره
النهائي.
وقد كان رحيل السيد محمد الشيرازي، القطب الاخير في جيل مراجع
الشيعة الكبار والاسم المرتبط بالصراع المرجعي الممتد منذ بدايات
السبعينيات وحتى اغماضته الاخيرة في ثاني ايام عيد الفطر المبارك
عام 1423 قد فتح باب الجدل مجدداً حول المساحة التي يمكن
للمرجعية ان تتمسرح عليها اجتماعياً وسياسياً في المراحل
القادمة.
تجدر الاشارة الى ان المرجعية في صورتها الراهنة هي منتج غير
تاريخي بل هي ابتكار شيعي فريد ظهر في القرن الثامن عشر الميلادي
ويمثل احد تجليات النزوع المتزايد داخل الدوائر الفقهية الشيعية
نحو تحقيق درجة كافية من النفوذ الاجتماعي في مقابل الدوائر
السياسية والتجارية الاخرى.
في المجال الديني، تجسدت القيادة المثلى كما تطورت وسط علماء
الشيعة في ايران والعراق منذ منتصف القرن الثامن عشر في الاكثر
اضطلاعاً بمعرفة احكام الشريعة والعلوم ذات العلاقة. والاعتراف
بهذه الملكة تتحصل عادة من خلال فترة طويلة من الدراسة والتدريس
والمحاضرات المتخصصة في احدى المراكز العلمية الواقعة في احدى
المدن المقدسة في العالم الشيعي. وهذه العملية بما يكتنفها من
خطوات واجراءات شديدة التعقيدة تتوج عادة بمنصب "مرجع التقليد"
وهو منصب غالباً ما يكون من نصيب كبار السن في الحوزات الدينية
الذين اكتسبوا خبرة ولهم "رسالة عملية" متداولة تشتمل على مجمل
فتاويهم في موضوعات الفقه.
وبسبب الارتباط التاريخي بين الحوزات الدينية والمدن الدينية
المقدسة لدى الشيعة منذ انتقال الشيخ الطوسى في القرن الخامس
الهجري من بغداد الىالنجف الاشرف والتي اعتبرت بداية تأسيس
الحوزة العلمية الشيعية أصبحت العراق وايران تتناوبان على موقع
المرجعية العليا للشيعة لنفس السبب، مدشنة لنوع من العلاقة غير
المتكافئة القائمة على اساس المركز والاطراف داخل المجتمع
الشيعي.
ومن الناحية التاريخية، شهدت المرجعية الشيعية كمفهوم فقهي
ومؤسسة دينية وسلطة روحية/ اجتماعية نقاط تحول أساسية تدفع
باتجاه احتواء (العامة) أو ما تعارف على تصنيفهم بـ (المقلدين)
داخل دائرة تأثير روحي متصل.
فقد بدأ مفهوم المرجعية بالمعنى المحدد للكلمة يتبرعم في اجواء
النقاش العقلي الذي أداره بامتياز رائد الانطلاقة الثالثة لحركة
الاجتهاد في المجال الفقهي الشيعي الشيخ مرتضى الانصاري في منتصف
القرن الثالث عشر الهجري. ففي سياق الجدل المحموم بين المدرسة
الاخبارية المؤسسة على مركزية الموروث النقلي كما نظّر لها الشيخ
محمد امين الاسترابادي (ت 1033/1624) ودافع عنها بحماسة عالية
الميرزا الشيخ محمد الاخباري (ت 1232هـ) والمدرسة الاصولية
بنزوعها العقلي التي تنامت على يد الشيخ مرتضى الانصاري. فلأول
مرة يقترب الجدل من حيز الفقه الشرعي بعد أن كان مادة للجدل
الاصولي العقلي. فقد قرر الانصاري (بطلان تارك طريقة التقليد
والاجتهاد)، فيما كان الرأي الاصولي القبلي يقضي بـ (رجوع غير
العالم الى العالم) استناداً على الدليل العقلي. وهذا بدوره مهّد
السبيل لاحتواء مسألة التقليد والاجتهاد داخل المجال الفقهي
بالنسبة لتلامذة الانصاري.
ففي بواكير القرن العشرين، انبرى السيد محمد كاظم اليزدي للقيام
بمهمة اتمام عملية نقل الرأي الاصولي لاستاذه الانصاري وتقعيده
فقهياً في عملية يمكن وصفها بأخطر نقطة تحول في تاريخ الاجتهاد
الامامي. فقد شهدت المدونات الفقهية الشيعية اول اضافة نوعية في
قائمة الابواب المدرجة في الحقل الفقهي وهو "باب التقليد
والاجتهاد" وثبته في كتابه الفقهي (العروة الوثقى) وهو الرسالة
العملية الواجب على العامي (المقلد) الامتثال بما جاء فيها. في
الباب الجديد ثبّت اليزدي فتوى تنص على أن "عمل العامي بلا
احتياط او تقليد باطل"، ومن شأن هذه الفتوى التأسيس لعلاقة دينية
محكمة بين فئتين هما "المجتهدين" و"المقلدين".
هذه الفتوى (والرسالة في مجملها) حظيت باهتمام مبالغ من قبل
الحوزات الشيعية في النجف وقم وجبل عامل ومثّلت رسالة "العروة
الوثقى" إنموذجاً يحتذى، كما يعكس ذلك العدد الكبير من التعليقات
التي بلغت نحو 120 تعليقاً من قبل مشاهير الفقهاء الشيعة
المعاصرين.
ان فتوى اليزدي حققت دون أدنى شك ما كان المجتهد/ الفقيه الشيعي
يبحث عنه في تأسيس علاقة مضمونة ومكفولة دينياً مع الجمهور
الشيعي.
وتلفت تجربة لجنة الدفاع عن النجف التي ظهرت للوجود في بيروت في
نهاية الستينيات الى أن ثمة توقاً متنامياً لدى المرجعية الشيعية
الممثلة في السيد محسن الحكيم والرهط الديني المتحلّق به من أجل
ترسيخ الحدود الفاصلة بين مركز المرجعية والسلطة. فقد ذكر تقرير
اللجنة ما نصه: (إن تقاليد المرجعية الدينية العليات تقضي
بالانفصال التام والاستقلال المطلق عن السلطة الحكومية، وتقضي ـ
نتيجة لذلك ـ بأن المرجعية ليست ملزمة بمساندة السلطة الحكومية
في مواقفها وسياساتها المحلية والخارجية، وليست ملزمة أيضاً
بتبرير مواقف السلطة الحكومية في الداخل والخارج). في المقابل
وبحسب التقرير (وتقضي تقاليد المرجعية الدينية العليا بتوجيه
النصح والارشاد الى الجهات الحكومية حول بعض التصرفات والمواقف
كما تقضي بإعلان الاستنكار والاحتجاج على بعض السياسات والمواقف
الأخرى وطلب الكف عنها).
وفي هاتين الفقرتين تكثيف وافٍ وبالغ الوضوح للتقليد الديني
المرسى من قبل المرجعية الشيعية في العلاقة بالسلطة الحكومية،
والتي تفسّر على أنها تجسيد لاملاء شرعي يقضي بقطع مسافة
احترازية عن الحكومات المصنّفة شرعياً على أنها مجروحة الشرعية
ان لم تكن مسلوبة منها تماماً.
ثمة تجربة مريرة من التجاذبات الحادة والعسيرة بين المرجعية
الدينية في النجف والسلطة السياسية في بغداد، وقد دوّنت المرجعية
نفسها بعضاً من تلك التجربة، ولاشك أن تقاليد المرجعية الدينية،
والعلاقة المتوّترة بينها وبين السلطة السياسية قد عكست نفسها
على امتدادات التأثير الروحي والفقهي للمرجعية خارج الحدود،
وخصوصاً في مجتمعات لا ترى في سوى المرجعية سبغة للشرعية ومصدراً
لابراء الضمير الديني.
طرحت مسألة في العهد الصفوي: هل على الشيعة الراسخين تحت الحكم
العثماني أداء الخراج الى عمال الخلفاء أم لا؟ وكان جواب العلماء
الدعوة الى شرعية حكومة الخلفاء في أراضيهم ووجوب أداء الخراج.
وينقل أيضاً بأن الشيخ منصور المرهون أحد علماء الشيعة البارزين
في محافظة القطيف بالمنطقة الشرقية من السعودية بعث في
الأربعينيات بسؤال الى المرجع الشيعي في كربلاء السيد أبو الحسن
الاصفهاني عن الحكم الشرعي في التعامل مع حكم ابن سعود، مع
ملاحظة المظالم الواقعة على الشيعة من قبل هذا الحكم في مجال
الحريات الدينية. وقد عاد المرسل بالجواب من المرجع الاصفهاني
بشرعية الحكومة ووجوب طاعتها. وقد وقع الجواب في يد المفتش
الجمركي على الحدود السعودية العراقية وأحيل لاحقاً الى الملك
عبد العزيز الذي سُرّ بالجواب، بالرغم من أن ذلك لم يعدّل في
سياسة الدولة التمييزية ضد المواطنين الشيعة.
وعوداً الى سياق التمركز الديني، فقد جاءت الثورة الاسلامية
الايرانية في العام 1979 بقيادة الفقيه آية الله الخميني لتعلي
شأن الدور الاجتماعي للفقيه وتزخمه بدلالات إضافية يعززه وهج
الانتصار السياسي. وما تجدر الاشارة اليه أن انتصار الثورة
الاسلامية في ايران مثّل ايضاً انتصاراً لنظرية ولاية الفقيه
المطلقة وروادها الناشطين سياسياً من مراجع الشيعة الكبار مثل:
الخميني والصدر والشيرازي والمنتظري مع الفات الانتباه الى
التباينات الشكلية داخل هذه الفئة.
الانعكاس الاجتماعي والسياسي لهذه النظرية تمثل في الحضور الطاغي
للمرجع الشيعي داخل حياة الفرد والجماعة من خلال شبكة الوكلاء
الذين يمثلون قنوات اتصال دائمة بين المرجع ومقلديه. فالمرجع بات
يمثل في وعي اتباعه معنى دينياً متعالياً ونمطا من العلاقة
الروحية التي تحكم رؤيته للذات وللآخر وتمتد تالياً الى كلية
العلائق العائلية والاجتماعية. فالمرجعية الشيعية بما مثلت من
تجسيدات اجتماعية وتعبيرات دينية ساهمت في تعزيز شكل سلطوي
اكليروسي. فلم يكن، والحال هذه، مجهود الفقيه طيلة العقود
الماضية سوى سعياً حثيثاً نحو توفير مبررات دينية واجتماعية
لتمديد هذه السلطة واختراقها للمجال الحيوي للفرد والمجتمع معاً
وصولاً الى الدولة.
وما جرى خلال العقدين الماضيين ان ثمة توقاً متنامياً ينزع الى
تعزيز سلطة الفقيه ونفوذه الاجتماعي والسياسي ولربما ساهم
التجاذب الحاد بين المرجعيات الناشطة سياسياً في اشعال رغبة
تكثيف حضورها الاجتماعي. ولكون هذه المرجعيات تتحصن داخل شبكة
تحالفات مع قوى اجتماعية ودينية وتجارية محلية فإن مصالح هذه
القوى تتوقف على استعدادها للدفاع عن هذه المرجعيات وزيادة
انتشارها الاجتماعي.
واجمالاًَ، فإن تبدلاً عميقاً جرى في العلاقة بين العموم الشيعي
والفقيه بموجب المعالجات المعقدة التي اجراها الفقيه في سياق
توفير الاساس الديني للعلاقة مع العامة (المقلدة). فبعد ان كانت
علاقة العموم الشيعي بالفقيه مدركة في الحيز اللفظي المشهور
"رجوع الجاهل الى العالم"، اصبحت لهذه العلاقة ابعاد اخرى أشد
وطأة، فالعلاقة بين المقلد والمرجع لم تقتصر على سد النقص في
مجال العلم الديني، وانما اكتسبت العلاقة معاني جديدة اكثر
أهمية، فالفقيه بات يتمتع بسلطة روحية وسياسية واجتماعية على
مقلديه، وأصبحت كل مرجعية تمثل امارة دينية تضم بداخلها اميراً
ومأمورين ومؤسسات وايديولوجيا وأهداف محددة.
هكذا كانت الصورة القارة في الوعي الشيعي العام لمقام المرجعية
الشيعية في هيئتها الاخيرة، وهي صورة مازال بعض جوانبها حاضراً
وفاعلاً في مجتمعات شيعية مازالت عاجزة عن إنتاج مرجعياتها
المحلية كما الحال في منطقة الخليج، ولكن بلا شك أن رحيل جيل
المراجع النافذين سياسياً والناشطين اجتماعياً ووصول جيل من
المراجع المتناسلين من مرجعيات قديمة أو الذين تقف الظروف
السياسية والفكرية والاقتصادية حائلاً أمام ترعرع مرجعيات جديدة
ملتحمة بواقع الجمهور، ينضاف الى ذلك الرغبة الشديدة وسط مجاميع
عديدة من المقلدين نحو اعادة تموقع او الانتقال الى مرجعيات
جديدة تمحو جزءا من تراث الصراع الملتصقة بفترات وشخصيات مرجعية
سابقة، كل هذه العوامل ستحول كما يبدو دون احتفاظ المرجعيات
الجديدة برصيد مرجعي ثقيل، وهذا من شأنه، في المحصلة النهائية،
سيؤول الى تخفيض سلطة المرجعية، على المستوى السياسي بدرجة
أساسية، حيث ترتد الى الحيز التقليدي الذي خرجت منه.
في الواقع ان الظروف الجديدة باتت مؤاتية لاخضاع المرجعية
الشيعية لعملية تقويم شاملة سعياً الى اعادة تعريف العلاقة بين
المجتهد والمقلد والحدود المقدرة لها، وثانياً استبدال شبكة
التحالفات القديمة القائمة على اساس مفهوم محدد للمرجعية الدينية
ومصالح مرسومة داخل دوائر مرجعية متشابكة، وثالثاً ازالة
التشابكات الحاصلة بين المجالين الديني والسياسي، والتي تفضي الى
فض الاشتباك بين مرجعيتين وإطارين سياديين وتالياً ولائين، بما
يغذي إرثاً من الصراعات والانقسامات وتفجير الحدود الناظمة
والفاصلة بين جماعات ظلت تتغذى على ثقافة مخاصمة الآخر على خلفية
الانشعاب المرجعي.
المرجعية الدينية والفقه الدستوري
تأثر تنامي النشاطية السياسية في التشيع بطروحات المفكرين
الاسلاميين الحداثيين، وفي بداية القرن العشرين كان العلماء
وطلبة العلوم الدينية في المدن المقدّسة في العراق يألفون
الأفكار الوطنية المتصلة بالوطن والمتميّزة عن مسؤولية المؤمن
تجاه الامة الاسلامية، وأهمية الوحدة الشيعية السنية في مواجهة
التوسع الأوروبي، والحاجة الى إعادة احياء الاسلام وتكييفه مع
الحداثة. هذه الأفكار التي بشّر بها المفكّرون الاسلاميون
الحداثيون مثل رفاعة الطهطاوي (1801 ـ 1873) والسيد جمال الدين
الافغاني (1838 ـ 1897) والشيخ محمد عبده (1849 ـ 1905) والشيخ
محمد رشيد رضا (1865 ـ 1935)، نقلت بصورة تدريجية الى المدن
المقدسة، ثم جاءت الثورة الدستورية في ايران والتي منحت
المجتهدين الشيعة في النجف فرصة تطوير نظرية سياسية ترسي أساسات
تمثيلهم في شؤون الدولة، وهو هدف كانوا يسعون اليه ليس في ايران
فحسب بل وفي العراق الملكي أيضاً. ومن جهة ثانية، ساهمت الحركة
الدستورية في اشاعة أجواء جدل ثري في الوسط الشيعي التقليدي سمح
بانتشار الافكار السياسية الدستورية التي ناصرها وبشّر بها
المفكرون الاسلاميون الحداثيون.
لا ريب أن هذه الافكار زوّدت المجتهدين برؤية ما حول الدولة
الحديثة وهذا ما تعكسه رسالة الشيخ محمد حسين النائيني (تنبيه
الامة وتنزيه الملة) والتي نشرت في عام 1909 تقريباً، في مسعى
لصياغة نظرية سياسية تشدد على محاسبة الحكومة ومراقبتها، وتضع
مبادىء مقاومة الحكم وتمثيل العلماء في شؤون الدولة دون مخالفة
قواعد الشريعة.
الى جانب البعد الايجابي لهذه الافكار في تنمية الوعي الدستوري
لدى الفقيه الشيعي، فإن منجزات التجارب السياسية في ايران
والعراق صبّت في صالح المجتهدين لجهة تطوير طموح ما لدى هذه
الطبقة وتحديداً لدى المتصدين للمرجعية الدينية العليا من أجل
إرساء سيادية كلية تعلو فوق سيادية الدولة ذاتها، او توازيها
ولكنها في الوقت ذاته منفصلة عنها، وهنا يتموضع الاشكال العويص
في العلاقة المعقدة بين المرجع ـ الدولة ـ عموم الشيعة.
ولا شك أن ضعف مكانة النجف بعد رحيل السيد الحكيم وانزياح مركز
الجاذبية من النجف الى قم بعد انتصار الثورة الاسلامية الايرانية
عام 1979 وتالياً اندلاع الحرب العراقية الايرانية وانفراط عقد
التواصل بين النجف والمسكونيات الشيعية خارج حدود العراق قد أثار
اشكالية الولاء الشيعي في مناخات شديدة التوتر أي في سياق الصراع
العربي ـ الفارسي (العراق وايران)، والصراع الطائفي (السعودية
وايران).
وهذا ما يدفع للتشديد دائماً على أن اشكالية الولاء لا يجب طرحها
في سياق خارج وداخل، لأنها بهذا الشكل تدرج في سياق خصومة
مذهبية، والا فإن الولاء المنقسم قد يعيشه المواطن السنّي في
السعودية الذي يطيح بمشروعية الدولة وينقل ولاءه الى مشايخ
مغمورين يقتفي أثر أفكارهم ويمتثل لأوامرهم بما فيها الاوامر
المحرّضة على محاربة الدولة. فالولاء يبدأ بشبكة العواطف العامة
لدى الافراد، ولا شك أن العاطفة الدينية تنتج مضاداتها حين تكون
في مواجهة عواطف أخرى مناقضة، إذ لا يمكن ان تجتمع العاطفتان
الدينية والسياسية حين تكون دينامياتهما في الخارج تعمل بصورة
عكسية، أي بمعنى آخر لا يمكن للمرء أن يقذف نفسه خارج ما انطوت
عليه ذاته العاطفية.
الولاءات المستبطنة: مزدوج الديني/ السياسي
ابتداء نقول أن إشكالية الولاء رافقت الشيعة منذ زمن بعيد، أي
منذ لحظة احتجاب المشروعية عن النظم السياسية الناشئة في زمن
الغيبة، ولكن شأنهم شأن المجتمع السنّي، فإن السلطة السياسية ظلت
شأناً منفصلاً عن الاجتماع الامر الذي حرم الجميع من مجرد
التفكير فيها فضلاً عن الانضواء تحتها أو تحديد قياساتها
النهائية.
فمعظم السنة قبل بأن الخليفة يصبح بشرعية مترددة ومشكوكة منذ
نهاية عصر الخلفاء الراشدين فيما آمن الشيعة بأن النظام العادل
لا يتحقق سوى مع عودة الامام المهدي. ومع ذلك بقيت السلطة من
الناحية التاريخية والنظرية صنواً إفتراضياً ومزعوماً للمذهب
السني، باعتباره دين الدولة والأيديولوجية المشرعنة للسلطة فيما
بقي التشيع مذهب المعارضة. بالرغم من أن هذه القسمة كانت دون ريب
ضيزى والى حد كبير اختزالية، لكل من المذهبين، فقد حمل أحد خطوط
المذهب السني في حقب تاريخية لواء المعارضة وأدخل رموز المذهب
المعتقل، فيما كان التشيع في لحظة ما مهادناً للسلطة، والعكس
صحيح أيضاً، كما لحظنا بأن المذهب الحنفي أصبح المذهب الرسمي في
الدولة العثمانية فيما كان المذهب الشيعي المذهب الرسمي في
الدولة الصفوية، رغم أن كليهما رفعا في فترات سابقة لواء
الاحتجاج ضد السلطة، كما أن التشيع الذي كان يشرّعن ويبني الدولة
والسلطة في ايران جرى استعماله لتهديمها في مراحل لاحقة. إن هذه
السيولة في حركة التمذهبات والمحرّضات السياسية فيها تجعل من
الضروري نفي التعامل مع مذهب أو أتباعه باعتبارهم صنفاً مندغماً
في خط تاريخي قدري لا فكاك منه وعنه.
إشكالية الولاء اذن يجب ان تطرح في هذا المناخ المتقلب بإستمرار.
وقد تصوّر أحد المتساجلين مثل محب الدين الخطيب في كتابه (الخطوط
العريضة) بأن المذهب الشيعي هو قائم على اساس رفض شرعية الحكومات
القائمة. وهو رأي صحيح في حده الأول والنظري، وهو بلا شك يلتقي
مع التصوّر الاسلامي العام حول الأمّة/ الوطن المؤجّل، اي الدولة
الالهية، الا أنه يخيب عن الخروج من اطاره السجالي ليصيغ رؤية
تحليلية متقنة مستندة على قراءة تاريخية عميقة لحركة المعتقدات
في تاريخ المسلمين، والعناصر الضالعة في توجيه مساراتها
ومؤثراتها الاجتماعية والسياسية.
في العصر الحديث وبخاصة بعد قيام الدولة القطرية، كان ثمة تسالم
ضمني وعفوي على إمكانية القسمة بين ولائين ديني وسياسي طالما بقي
مجال تأثيرهما يعمل في فضائين جغرافيين ومعرفيين منفصلين وفي
الوقت نفسه غير متصادمين، بخاصة في فترة كان فيها الشيعة منغمسين
في عزلة سياسية شبه تامة، حيث لم يكن الولاء السياسي يخضع
للامتحان.
قائمة الاسئلة المتصلة بإشكالية الهوية والانتماء تبدأ أولاً
هنا: متى خضع ولاء الشيعة لدولهم للاختبار؟ ومن ثم هل يمكن قسمة
الولاء كما هو الحال بالنسبة للهويات بحيث يعرّف الانسان نفسه في
سياق هويات متعددة ودوائر انتماء متداخلة وفي الوقت نفسه متفاوتة
الحجم والتأثير. ثم يأتي السؤال الكبير حول السيادة: لمن؟ الديني
أو السياسي؟.
إن الجواب عن هذه الاسئلة ليس ممكناً طالما ظل الهدف منه درء
تهمة أو اقتفاء سيرة المتساجلين، إذ لابد من رؤية استرجاعية
تعيدنا الى حيث نضع أقدامنا على الطريق الصحيح. وهنا يتطلب تكثيف
الضوء على ما يمكن وصفه بالتواطؤ غير المقدّس بين العزلة الشيعية
والتهميش السياسي. ففي أعقاب ما يعرف بالغيبة الكبرى حدثت
استقالة جماعية للشيعة وجرى تعليق الوظائف (المولوية/ السيادية
والسياسية) في تواصل مع إعطاب دور الامة في التغيير، تبعاً
لتعليق الشرعية بالمعنى الديني، والذي أفضى تلقائياً الى تأجيل
الاستحقاق السياسي والى حد ما الديني والحضاري الى وقت الظهور
المأمول بقدوم المهدي المنتظر بوصفه المنقذ من الضلال، والعائد
بشعلة النور، والمشيع للعدل في الارض.
ويتقن السيد محمد تقي الموسوي الاصفهاني فن تصوّير الوظيفة
الدينية للخلق في زمن الغيبة، كتعبير أمين وبالغ الوضوح عن
الرؤية التقليدية والغابرة للتشيع. ويسجّل الاصفهاني نقاطاً
عديدة للعامي الشيعي المنتظر لعودة إمامه منها (أن يكون حزيناً
لفراقه ومظلوميته)، و(أن يكون منتظراً لفرجه وظهوره)، و(أن يكون
باكياً في فراقه ومصيبته)، ومهام أخرى تجتمع عند نقطة تسليم
الأمر لولي الأمر المنتظر، أي التسليم به، وتسليم الاموال له،
والتصدق لسلامته، والتعرف على صفاته، وطلب معرفته، والدعاء له،
والتضحية نيابة عنه..الخ. وترسم هذه التوليفة الوظيفية في
العلاقة المركّبة بين العامي والامام مسار ومصير العلاقات
الناشئة لاحقاً بين العامي ومجمل الكيانات الدينية والدنيوية،
والتي يمكن حملها على عنوان الشرعية.
فمن الناحية النظرية، تأطّر مفهوم الشرعية في عمودية تتحدر من
الخالق الى النبي والامام، وفي مرحلة لاحقة جرى فتح الحيز من أجل
إقحام الفقيه كتجسيد متصل للشرعية بعد الامام، وتاريخياً فإن
مفهوم النيابة (كتوطئة أيديولوجية لتسويع وترسيخ الانضواء
المتأخر للفقيه داخل خط الشرعية) تطوّر منذ عهد المفيد ومروراً
بعهود الشهيد الاول والكركي والانصاري والنراقي وكاشف الغطاء
واليزدي وصولاً الى الخميني والصدر والشيرازي.
ولهذا السبب، وقبل قطع النسق التاريخي والمذهبي من قبل السيد
الخميني فإن ثمة إرادتين متواطئتين بصورة عفوية: إرادة العزلة
الطوعية لدى عموم الشيعة طيلة القرون السابقة والتي أبقت عليهم
كجماعة مسالمة ومرتهنة لتقلبات الاوضاع المحيطة بهم والتي رسمت
لهم مساراً ومصيراً في العلاقة مع من حولهم من الفئات الاجتماعية
والحكومات. والثانية إرادة التهميش الشامل السياسي، والاقتصادي،
والاجتماعي، والفكري من قبل الانظمة السياسية، وتركّزت ارادة
التهميش بدرجة عالية في المملكة لأسباب عديدة مذهبية وسياسية
وأمنية وقبلية.
إن فشل الانظمة السياسية في تحقيق الاندماج الشامل السياسي
والاقتصادي بدرجة أساسية للشيعة أدى الى تكريس حالة العزلة
والانطواء ثم عززت سياسات التنكيل والتمييز على اساس طائفي من
الافكار الشيعية اللاهوتية كمبدأي الانتظار والتقية.
على سبيل المثال، كان الحكم في العراق إبان العهد العثماني
خاضعاً للاسر السنيّة التي تنتمي الى المذهب الحنفي، وكان معظم
موظفي الحكومة ـ العراقية ـ من الاقلية السنيّة، وكانت تغصّ بهم
المدارس والمحاكم وكان منهم المدرسون والقضاة. وكان شيعة العراق
ملزمين بالتحاكم الى القضاة الاحناف، وهذا ما أفضى الى عزوف
غالبية الشيعة عن المحاكم الرسمية التي كانت تقضي وفقاً لمذهب
يخالف مذهبهم في بعض الآراء الفقهية التي تتبناها، ويعد هذا من
أبرز العوامل التي أدت الى مقاطعة الشيعة للسلطة واعتزالها،
وتذكر المصادر التاريخية أن معظم قضاة مدن الولاية في العراق
كانوا يمكثون في مناصبهم دون أن ينظروا في أية قضية الا في
القليل النادر من الأحوال، مما كان يجبر عليه البعض من الناس.
وقد نقل عن أحد قضاة مدينة كربلاء أنه مكث في منصبه تسعة أعوام
(لم ير فيها ولا دعوى واحدة)، فقد كان فصل الخصومات يجري في
العراق وسوريا عند المجتهدين الا ما ندر.
فحين يلتقي فشل الدولة في تطوير مفاهيم وطنية جامعة وتحقيق برامج
إدماج وطني فاعلة مع الميول الانعزالية التقليدية والنشطة لدى
الشيعة، تكون النتيجة هي قطيعة تامة ومتبادلة قابلة لأن تتطور
الى حركة انفصالية وأحياناً مسلّحة، كما جرى في الثمانينات في
العراق وبعض دول الخليج.
ولكن في التجارب المتأخرة ما يقدّم حوافز على جدوى إتبّاع سياسة
دمج فاعلة للفئات الاجتماعية. فقد نجحت الحكومة الكويتية نسبياً
في غرس روح مشتركة وتطوير مشاعر وطنية من نوع ما بين السكان على
اختلاف طوائفهم الى حد أخمدت معها، والى حد كبير، الميول
والنزعات الانعزالية لدى الشيعة الذين باتوا يتداخلون بدرجة
معينة في الجهاز الاداري للدولة، مع لفت الانتباه الى الدور
السلبي الذي لعبه الانبعاث الديني التقليدي في شكله العصبوي وسط
بعض الفئات ما عطل نسبياً حركة الاندماج الثقافي والسياسي.
بالنسبة للبحرين فالأمر يختلف كون الشيعة يمثلون أغلبية سكانية،
وبالتالي فالحديث يدور حول إندماج هذه الأغلبية في الجهاز
الاداري للدولة وليس لوطن يمثلون جزءا كبيراً من رصيده ورأسماله
الرمزي والتاريخي والحضاري، تماماً كما هو الحال بالنسبة لشيعة
العراق أيضاً. وهذا ما يجلي الغمامة حول التعارض الافتراضي بين
عزلة الشيعة السياسية ومقاطعة السلطة وبين الاندفاع العفوي نحو
المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الاجنبي في ثورة العشرين، والتي
قادها المراجع والمجتهدين، حين ألقى المرجع الديني الاعلى في
النجف السيد محمد كاظم اليزدي في 6 كانون الاول 1914 خطبة دعا
فيها للجهاد وحث الناس على الدفاع عن مقدسات المسلمين وبلادهم،
وأكدّ ذلك حتى على الفتى العاجز بدناً لتجهيز الفقير القوي. ولعل
هذا، ولكن من زاوية مختلفة، يلتقي مع وقفة علماء الشيعة في
المنطقة الشرقية بما فيهم المعارضين للحكومة للانخراط في برامج
التعبئة العامة لمواجهة تهديدات النظام العراقي السابق بعد
احتلال الكويت في الثاني من آب/ أغسطس 1990.
السلطة التشريعية للفقيه: الأمّة ضد الدولة
من الناحية التقليدية والتاريخية فإن وظيفة الفقيه هي التأسيس
لفقه الأمة وليس فقه الدولة. فالنشأة الغربية لفكرة الدولة يمكن
أن تفسّر الازدواجية والغموض الذي ينعكس في أداء الفقيه، فبينما
ينظر بعض النهضويين الدينيين الى الدولة بوصفها أداة يمكن عن
طريقها ضمان تطبيق الشريعة، فإن ثمة تجاوزاً او إلغاء لهذه
الاداة وسياق تطورها التاريخي والقانوني الاوروبي وبخاصة حين
يراد منه ترسيم الحدود بين كيانات سيادية (الدين ـ الأمة ـ
الدولة). الامة، بالنسبة للفقيه، هي الفضاء الحيوي الذي يحقق فيه
ذاته ويضطلع فيه بمهامه ذات الطبيعة الدينية المحضة. في حقيقة
الأمر، أن المنظّرين الاسلاميين يلتقون عند عقيدة موحّدة: أن
المسلمين لهم وطنيتهم الخاصة وهي الاسلام، وأن الدولة باتباعها
الشريعة تمدّهم بالأداة التي يمكن بها تحقيق الحق: سيادة الله.
فالشريعة وليس القانون البشري يعطي إرشاداً ودليلاً شاملاً في كل
جانب من جوانب الحياة. وأن ارادة الله يعبّر عنها بالتساوي عبر
مجتمع المؤمنين، ولذلك فإن الدولة التي تتصرف باعتبارها نائبة
وخليفة الله، يجب دائماً أن تزاول مهامها وفق توجيهات ورثة
الأنبياء والأئمة أي الفقهاء باعتبارهم الممثلين الشرعيين عن
الله والناطقين الرسميين بإسم القانون الالهي. إن السلطة
التشريعية تصبح إذن زائدة عن الحاجة لأن القانون الالهي محيط بكل
شيء، وأن الكشف عن هذا القانون هو من مهمة طبقة الفقهاء وبالتالي
فإن السلطة التشريعية ليس لها دور في سن القوانين.
لم تواجه ايران مشكلة التشابك بين الأمة والدولة لأن ثمة تطابقاً
بين حدود الأمة وحدود الدولة، وبالتالي فإن التعارض بين مجالي
عمل منظومتين فقهيتين غير قائم، فما يمكن وصفه بتمركز السيادات
ساهم في إخماد مبررات الصدام بين الدين والدولة أو على الأقل
تأجيلها، ما لم تعمل مولدات انشقاق أخرى داخل هذين الكيانين
السياديين. إن انخراط المجتهدين في السياسة منذ نهاية القرن
التاسع عشر، اي مع الشيرازي، قائد ما يعرف بـ (ثورة التنباك)،
مروراً بالحركة الدستورية، وثورة مصدق ـ كاشاني، وأخيراً الثورة
الاسلامية بقيادة السيد الخميني، جمع مراكز السلطة في نقطة
واحدة، ولكن في المقابل صنع توترات خارج هذه النقطة. تماما كما
الحال بالنسبة لتجربة التوحد الديني ـ السياسي في السعودية،
فبقدر ما حقق هذا التوحّد انتصاراً باهراً في نجد، قضى بدوره على
التنافس داخل أسوار نجد وصهر، في نهاية المطاف، كافة القوى
القبلية والدينية في وحدة دينية وسياسية.. فإن هذا التوحد واجه
إخفاقاً ذريعاًَ خارج تلك الاسوار، أي فشل في صناعة وحدة وطنية.
ولاية الفقيه المطلقة تنطوي على نزعة إختراقية تعلو فوق حدود
وسيادة الدولة ـ القطرية، وهكذا حدود السلطات الدينية التقليدية
الممثلة في مراجع التقليد ـ الفقهاء.. باختصار إذا كان ولي
الفقيه على رأس دولة فهو يخترق الأطر السيادية الأخرى أي سيادة
الفقهاء المراجع، وهكذا الدول. وقد نشأت اشكالية الولاية العامة
والولاية الفرعية، فصار لولي الفقيه على رأس الدولة ولاية مطلقة
تمتد وتخترق الدوائر المرجعية داخل وخارج الحدود على السواء،
بحيث يكون لحكمه نفاذ على عموم الشيعة، بصرف النظر عن مراجع
التقليد الذين يعودون اليهم في الاحكام، ولذلك تم التفريق مع
وصول السيد علي الخامنئي الى سدة المرجعية والولاية الفقهية
والسياسية في ايران، بين ولاية الأمر والمرجع الديني التقليدي.
فالأخير له ولاية محصورة في المجال الفقهي الكلاسيكي، اما ولي
الأمر فله سلطة عليا (مولوية) تعلو فوق كافة السلطات بما فيها
الدولة.
هذا من الناحية النظرية.. ولكن هذه المفاهيم المستحدثة لم تكن
تحظى بقبول سهل، وكغيرها من المفاهيم المثالية فلم يكن بالامكان
إنجاز الطموح في ظل تعارض ورفض من قبل المرجعيات الشيعية وخصوصاً
خارج الحدود التي لم تتوافق مع أطروحة ولي الفقيه المطلق
الصلاحية، وبخاصة في مثال السيد الخامنئي كونه لم يحقق في ذاته
الخصائص الكاريزمية كالتي حاز عليها سلفه الأمام الخميني.
حين إجتمع الديني والسياسي في مركز واحد، أصبحت السلطة الدينية
في فضاء جغرافي ومعرفي ممتد خارج محيطه الجيوبوليتيكي الافتراضي.
بكلمات أخرى إن اشكالية الولاء، أي ولاء الشيعة طرحت بعد الثورة
الايرانية وبزوغ وتجسيد نظرية ولاية الفقيه المطلقة، ومن الناحية
العملية جرى التداول الفقهي بشأنها مع وصول السيد علي الخامنئي
الى سدة القيادة السياسية والدينية في ايران، حيث تم ابتكار منصب
(ولاية أمر المسلمين)، وحينذاك بدأت الفتاوى ذات البعد السلطاني
تجمع بين المرجعية الدينية بالمعنى الفقهي الخالص وولاية الأمر
بالمعنى السياسي. وقد تم شرح ذلك على النحو التالي: (فإذا كان
للفقيه نوع ولاية وحاكمية، وأصدر حكماَ، فإنه يسري على كل
الفقهاء، ويجب عليهم طاعته فضلاً عن غير الفقهاء، ويكون عدم
الأخذ بهذا الحكم رداً على الائمة (ع) والنبي (ص) ومن ثم ردّاً
على الله تعالى..). ويمثّل لذلك: (لو افتى ولى أمر المسلمين (=
قائد الجمهورية الاسلامية الايرانية) بالحرب، وأفتى مرجع التقليد
بالحرمة، ما هو موقف المقلد في هذه الحالة؟). يجيب السيد
الخامنئي: (يجب طاعة ولي أمر المسلمين في الأمور العامة التي
منها الدفاع عن الاسلام والمسلمين ضد الكفرة والطغاة
والمهاجمين). وقد أفتى الخامنئي بأن (إتباع حكم ولي أمر المسلمين
واجب على الجميع، ولا يمكن لفتوى مرجع التقليد المخالفة أن
تعارضه).
ويلزم التنبيه هنا الى أن الفتوى طرحت في سياق الجدل الدائر في
ايران بين مراجع التقليد غير المتوافقين مع الدولة الايرانية،
بالرغم من أن المجال الجغرافي للحكم الفقهي يظل مفتوحاَ على أفق
واسع بحيث يستوعب عموم المسلمين (وبالأخص الشيعة).
ومن منظور التطوّر التاريخي، فإن (التناثر البلقاني) للأمة
المنضوية داخل الخلافة العثمانية وبداية عصر الدول القطرية لم
تقابله إعادة توزيع وتموقع للمراكز الدينية، فقد ظلت المراكز
التقليدية عصيّة على التحلل والاندحار، بل وطّدت الدولة القطرية
من هيمنة هذه المراكز لأسباب ليس هنا مجال التوسع في شرحها..
ولكن باختصار لأن الدولة القطرية عجزت عن احتواء هذه المراكز بعد
أن فشلت في ربط نفسها بشراكة مصير محددة ثقافياً وسياسياً مع
القاطنين داخل حدودها.
وفيما كان التشظي يسيّر مصير التركة العثمانية في هيئة دول
قطرية، كان الفقيه مصرّاً على نبذ أية رؤية استرجاعية من أجل
التأمل في الواقع والتفسخ البيولوجي للدولة ـ الأمة، وتالياً
التعامل مع البرهة المعاشة خارج مدار الأمة، من أجل تحديد علاقات
ضبط متبادل ومتواز بين الأحكام وجمهور المؤمنين بلحاظ ظروف كل
دولة ومنطقة. إن ما جرى داخل معادلة الفقيه/ المرجع ـ العامي/
المقلّد هو أن الدولة ليس لها ذرّة وجود خارج التفاعلات الدائرة
داخل هذه المعادلة. فهناك منظومة ضوابط شرعية تسيّر دفة العلاقة
بينهما، وتفرض هذه المنظومة سطوة تفوق سطوة الدولة نفسها بالرغم
من أنها لا تتأثر بصخب التفاعلات البيروقراطية داخل الدولة، ولا
تحتكم لأطار عضوي فائق الكفاءة ودائم الحضور كما هو الحال
بالنسبة للدولة.
|