الموقف من الانتخابات البلدية

رؤية في المأمول الاصلاحي

 

 نقترب تدريجياً الى ما هو مفصل افتراضي في العلاقة بين المجتمع والدولة أو بالاحرى في المنازعة الحقوقية السلمية بين الحاكم والمحكوم، يتدشّن على إقرار ضمني من قبل الحاكم بحق الشعب في المشاركة السياسية وفي عملية صناعة القرار، وإن بدأ هذا المفصل من مستوى يدنو من الصفر الديمقراطي، ودون خط الفقر الاصلاحي. ومهما يكن، فقد وصلنا الى البرهة التي يقترن فيها بؤس التجربة السياسية الماضية بكل اقترافاتها وخيبات الأمل المصاحبة لها بفضيلة التغيير كما يرسمه الخطاب الاصلاحي الوطني. مع أن المفارقة المقيتة هذه لا تكشف عن مجرد حقيقة جديدة ما لم تكن مشفوعة بسلسلة تدابير تستجيب لضرورات المرحلة الراهنة ومتطلباتها المستقبلية.

إن مسألة التأمل والترقب في المولود القادم، وتحديداً الانتخابات البلدية المزمع اجراؤها وشيكاً في مناطق المملكة بطريقة متواترة، لا تهدف ـ لا أقل من وجهة نظر القوى السياسية المحلية ـ الى اختبار التجربة الانتخابية المنتظرة في ضوء المعايير الديمقراطية السائدة، بقدر ما هي اختبار للامكانية الفعلية والكامنة للدولة في ادارة التحوّل الديمقراطي في ظل موجة عارمة من الشكوك المتراكمة لعقود من الزمن. وفي حالة بلادنا، فإن الارتياب في أي فعل اصلاحي مزعوم يغدو فضيلة لدرء الايقاع والوقوع بنا في مطب التسليم والاستسلام الذي يمكن أن يلحقه الصخب الدعائي المصاحب لمثل هذه الحالات، مع التنبيه الى وجود فئة غالباً ما تقع ضحية الخضوع الآلي لمواقف الدولة وسياساتها، والتي تتحوّل الى طاقم دعائي يضطلع بمهمة حياكة الانجاز الوهمي المفضي في نهاية المطاف الى صناعة الاجماع الوهمي.

قد لا تعني الانتخابات البلدية بأننا ندخل الى (مرحلة جديدة) بما تفرض على دعاة الاصلاح إبداء المزيد من التحفظ في مواقفهم والمزيد من التأمل في مخرجات المرحلة الراهنة وتداعياتها على القادم. في حقيقة الامر، نحن أمام إختبار من نوع مختلف ينبغي النظر اليه بوصفه تحدياً لارادة التغيير لدى الدولة والقوى الاصلاحية الوطنية. إن هذا كله يقتضي تحرير الايمان الساذج بكوننا في مرحلة تحوّل سياسي جوهري، بما يجعلنا متواطئين مع مأمول اصلاحي مثخن بكل سهام الشك وجروح النكسة في درب الاصلاح الوعر. وبكل الفجوات الواسعة في الذاكرة النضالية هناك منبّه يطلق دوّياً مفزعاً كي لا نسقط جميعاً ضحية تزوير للوعي الاصلاحي، وأن ما يحول دون ذلك هو إدراك حقيقة أن سيرة الاصلاح تبدأ من نقطة الاعتراف بالخطأ الجسيم الذي اقترفه أهل الحكم عن عمد وسابق اصرار، قبل الدعوة للدخول الى مهرجانية الاصلاح.

 بات معلوماً بالحس المادي أن الانتخابات البلدية مصمّمة على مقاييس السلطة وتحقيقاً لأغراضها واحتواءً للضغوطات الموجّهة اليها من الداخل والخارج، ولكن يبقى للحق العام أولوية في تقرير طبيعة الموقف. ولكن، وكما في كل التجارب السابقة، فمن المقدّر أن نمر بخيبات صغيرة ومتوسطة الحجم من أجل تحقيق منجز متطابق مع الرغبة العامة. إن صناعة الاساطير حول موعود الاصلاح السياسي في بلادنا باتت فاشلة،  فالشهادة الدامغة حول نجاح أو إخفاق أية تجربة تستوعب قمم المجتمع وهوامشه، ولا يكفي فيها مجرد وجود بائع اعلامي يروّج لبضاعة الدولة.    

سوف يتطلب من الجميع التفكير في التجربة الانتخابية القادمة بصورة مستقلة من أجل الوصول الى رؤية حول الطريقة التي يجب ان تسلكها الديمقراطية في هذا البلد المحكوم بسلسلة طويلة من القيود الاجتماعية والثقافية والسياسية والتي تحول منفردة أو مجتمعة دون خضوع الجنين الديمقراطي لشروط النمو الطبيعي واستكمال البنى الفكرية والاجتماعية الضرورية لضمان مستقبله.

أن لا يعطي أحد لمعدّي التجربة الانتخابية القادمة شيكاً على بياض فذلك بديهي، ولكن المعارضة المبدئية للتجربة تبدو، في المقابل، منكرة، وهذا لا يلغي الاستعمال المفرط لآلية الارتياب في هذه التجربة، وبخاصة حين تقاس المسافة المتبقية لبلادنا من أجل الوصول الى ديمقراطية حقيقية، وبخاصة أيضاً اذا ما أدركنا ان معوّقات الديمقراطية ليست ثقافية واجتماعية فحسب، بل الاخطر منها المعوّق السياسي، أي النابع من أولئك الذين وهبوا انفسهم حق الاشراف والسيطرة على العملية السياسية بكاملها.

هناك من يربأ بنفسه عن قبول ترشيح نفسه في عملية انتخابية ليس فيها ميزة خاصة سوى كونها تتم عن طريق (الانتخاب)، الحلم الذي راود كثيرين في هذا البلد، بما يحمل من مدلولات سياسية وثقافية، إذ لأول مرة يصل مرشحو الشعب الى موقع صناعة القرار، مع انخفاضه الاداري، بعد أن كان التعيين والعزل حقاً راسخاً ومحتكراً للطبقة الحاكمة.  

في كل الاحوال، لقد إنشق الفناء في أفق التجاذب السياسي الداخلي عن أمل جديد ولا يجب أن تفضي الشكوك والهواجس الى كبت الفناء أو تدميره، فما يتحقق الآن ليس سوى ثمرة النضالات الطويلة والقاسية للقوى السياسية والاجتماعية الوطنية. بكلمات أخرى، أن الانتخابات البلدية ليست (مكرمة) ولن تكون، وان أسبغت الدولة عليها شكلاً موحياً بذلك، تماماً كما أن أي متغيّر قادم في مسيرة الاصلاح السياسي سيأتي مدموغاً بقهر ومعاناة المصلحين السابقين واللاحقين. وهذا يعني أن الانضغاط بين قراري التفويض الكلي والنفور الكلي من الانتخابات ينطوي على إقرار غير مقصود بأن الانتخابات البلدية منجز غير شعبي، بما يتطلب توجيه مسار الضغط نحو تعميم الايمان بحق الشعب في ادارة ذاته بذاته دون تحويل ذلك الى منّة من منن الحكومة.

الواقع، أنه عندما يخيّل للخاضعين تحت وطأة الوعود الجوفاء التي تطلقها الحكومة بأن ما يولد هو بالضرورة من رحم الدولة، تأسيساً على فرضية أن عناصر التكوين وخيوط اللعبة متمركزة في يد الدولة، وأن دعاة الصلاح ليسوا أكثر من متسولين على باب السلطان يصبح مجال الحقوق مغلقاً بإحكام ما لم يجد بفتحه في مثل بعض أشكال التغيير التي تجريها في الوجه الخارجي للدولة.

ليس ثمة حاجة للتحذير من أن تنطلي مبيّتات الدولة في تجربة الانتخابات البلدية على الفرد العادي فضلاً عن الراشدين في الطيف السياسي العام بإتجاهاته الايديولوجية والاجتماعية المتنوعة، فإذا كان الرهان موجوداً على الدوام في كل متغير بصرف النظر عن كمية المأمول منه، فإن الرهان على الانتخابات البلدية مشروط بما يسفر عنه كونه محاطاً بالريب الذي بات أكثر من ضرورة من اجل احباط مفعول المخاطر الكامنة في لعبة التغيير الديمقراطي، مع أن كل شيء في هذا البلد يخبرنا بأن التغيير حتمي وهو وحده اليقين الذي لا يدرك أحد كيف يترجم نفسه في هيئة قرارات وسياسات وتوجهات.

وفي كل الاحوال، لنهيئ أنفسنا لسلسلة متغيرات وان كانت عابرة ولكنها تشكل حلقات متصلة في عملية تغيير تقاتل القوى المضادة له من أجل إبطاء سيره، مع ادراكها التام بحتمية وقوعه، ولا مناص في مرحلة ما من تبنيه كما فعلت القيادة السياسية خلال السنتين الماضيتين، أي قبل الارتداد الى المعدن الاستبدادي. إن هذه التهيئة تتطلب استعداداً نفسياً وفكرياً وأيضاً جسدياً لمقاومة أشكال اضطهاد أخرى في طريق التغيير، فإعاقة السير الى الامام تستوجب أشكالا متطورة من المقاومة لدفع العربة. فقد بات ثابتاً بأن التغيير حاصل رياضي من عمليتي اضطهاد ومقاومة، الى درجة أنهما ينخرطان في علاقة تكاملية، وبالتالي فمن غير المنطقي أن ينجب الاضطهاد تغييراً دون مقاومة شعبية وطنية.

في تجارب النضال السياسي في هذا البلد ما يمدّنا بكل الدلائل الرصينة وبجلاء واضح بأن التحوّلات الصغيرة والكبيرة في بنية الدولة جاءت عقب موجة اضطهاد وحركة مقاومة مضادة. هكذا كان حال التغيير في الستينيات، وهكذا كان التغيير في مطلع الثمانينيات، ومن ثم التسعينيات باعلان النظام الاساسي ومجلسي الشورى والمناطق، وصولاً الى بزوغ التيار الاصلاحي الوطني في شكله التنظيمي الاولي في بداية عام 2003 والذي لا يزال يواصل نضاله من أجل إرساء أسس الديمقراطية، وليس الاعلان عن الانتخابات البلدية سوى إحدى منجزاته النافرة، بصرف النظر عن تفاوتات التثمين لمثل هذا المنجز. ما نود التشديد عليه، أن التحوّلات الداخلية الفكرية والسياسية والاجتماعية هي حميمية الصلة بالتيار الاصلاحي الوطني وهو وحده وخلفه التأييد الشعبي الواسع صانعها الأول، وأن محاولة اختطاف المنجز لا يغيّر من حقيقة ان الدولة ممثلة في الطبقة الحاكمة كانت القوة الكابحة الكبرى لحركة التغيير.

إن الرداء الاصلاحي الذي تسترت به الطبقة الحاكمة كان هو الآخر من ممليات التيار الوطني الشعبي، فلولا الهبّة الاصلاحية التي قادها رموز هذا التيار وترددت أصداؤها في المجالس العامة، وعلى صفحات الجرائد والمجلات المحلية والخارجية، وفي منتديات الحوار على شبكة الانترنت، وفي المقابلات التلفزيونية، وفي المؤتمرات السياسية، وفي النقاشات المفتوحة والرائجة في الهواء الطلق لما ظهر في الطبقة الحاكمة من ينسب نفسه الى المصلحين أو يلهج بكلمة الاصلاح في خطبه وبياناته.

لم يكن الاصلاح منتجاً سلطانياً في أغلب دول العالم فكيف به يكون في دولة نشأت في الاصل على مناهضة التغيير، وقامت على الانحباس في الماضي بالمعنى الديني والسياسي، أي بالابقاء على مركزية الايديولوجية الدينية كما صيغت في القرن الثامن عشر والمستمدة من كتابات القرون الغابرة وبالابقاء على سطوة مدعى الحق التاريخي للعائلة المالكة القائل بـ (ملك الآباء والأجداد). ولذلك يبدو مخلاً ومخجلاً التبتل بتسبيحات المصلحين من لدن بعض الاقطاب في المؤسسة الحاكمة، لأن السريرة والسيرة تناقضان ما يزلّّه اللسان.

هذا كله يدعو لتحذير المؤسسات الضالعة في عملية الاعداد والتعضيد للانتخابات البلدية في السعودية وبخاصة بعض لجان الامم المتحدة المختصّة بمتابعة التطورات السياسية في الدول الاعضاء من الانزلاق الى اضفاء شرعية كاملة على المفتعل الاصلاحي في الاسابيع والشهور القادمة، لأن ذلك يمنح الحكومة الطمأنينة التامة بأن مشروعها الاصلاحي يحظى بمشروعية وتأييد دوليين، بما يجعل خط بدايتها في الاصلاح السياسي مقترناً بتأييد الأمم المتحدة، مع أن هذه البداية تعتبر ليست ناقصة فحسب بل ومدانة. وهذا كما أسلفنا لا يتعارض مع المشاركة فيها لأنها حق عام، وهي قبل ذلك منجز نضالي وطني وليس هبة رسمية. إن إنجذاب لجان الامم المتحدة الى الحدث الانتخابي في السعودية لا يسبغ عليه معنى اضافياً يفوق حجمه ومحتواه الحقيقي، تماماً كما أن المشاركة الشعبية في الانتخابات البلدية لا يجب ان تفسّر بوصفها تفويضاً للدولة لادارة العملية الاصلاحية، فضلاً عن تقديمها لجرعة إضافية من المشروعية.     

إن ثمة تعويلاً كبيراً لدى العائلة المالكة على ضآلة المحصول السياسي من الانتخابات البلدية، ولذلك أرادت منها ان لا تتحول الى حدث وطني وشعبي من خلال اعتماد التمرحل الاجرائي، بما يمكّنها من ضبط وادارة سيرورة الانتخابات في كل منطقة، وفي الوقت نفسه استدراك أخطاءها في المرحلة اللاحقة. باختصار، فإن الحكومة لا تريد من الانتخابات ان تتحول الى مناسبة تفسح الطريق لتمسرحات سياسية شعبية قابلة للاستثمار في مشاريع سياسية أكبر. ولكن في الاحوال كلها يبقى للصوت المكبوت فرصة الصرخة في فضاء الوطن، حين لا يجد أحد قناة للتعبير المستقل عن المطلب الاصلاحي وتذكيراً بأن الرموز الاصلاحية الثلاثة في سجن عليشة هم شهود على زيف المدعى الاصلاحي للحكومة.

 

 

   التحرير