ديمقراطية بدون وهابيين!
كيف تتم دمقرطة السعودية بدون وقوعها بيد المتطرفين؟
مرتضى السادة
ظهرت في الآونة الأخيرة اقتراحات ودراسات قدمت الى الحكومة
السعودية تجيب على تساؤل لمشكل بل معضل مفترض تعاني منه المملكة،
وتستخدمه الحكومة السعودية كذريعة لتعطيل الإصلاحات. هذا التساؤل
هو: كيف يمكن دمقرطة السعودية دون أن تقع في قبضة (المتشددين
الوهابيين).
وفي ظنّي فإن السؤال يحمل في طياته ابتداءاً معطيات خاطئة، كما
يحمل أيضاً تصورات وحلول غير صحيحة.
من بين هذه التصورات والمعطيات والحلول التالي:
أولاً ـ تستبطن الإقتراحات ابتداءً القول بأن الإصلاحات السياسية
في المملكة، او دمقرطتها ولبرتها على الطريقة الغربية، تواجه
اعتراضات شديدة من المؤسسة الدينية، التي توفر بعضاً من
المشروعية لنظام الحكم السياسي في المملكة، كما تفترض أن تلك
المؤسسة بطبعها المحافظ معادية للإصلاحات. والحقيقة إن المؤسسة
الدينية كما المؤسسة السياسية محافظتان وتخشيان من التغيير، ولا
ترغبان في وقوعه، ولا تريدان بل لا تعترفان بأي حق للجمهور في
صناعة القرار، فهما ولاة الأمر (العلماء والأمراء) اللذان يديران
شؤون البلاد والعباد، واللذان تجب لهما الطاعة والخضوع.
المؤسستان هاتان تعتبران نفسيهما بديلاً عن الجمهور، وليسا
ممثلاً له. ولكن المؤسسة السياسية، وبسبب تذرّعها الدائم لدى
حلفائها الغربيات، بأنها تنوي الإصلاح ولكن المؤسسة الدينية لا
ترغب فيه، وبسبب إلقاء اللوم على رجال الدين الوهابيين، بدا وكأن
بعض الباحثين يبرر الديكتاتورية السعودية ويحملها على أكتاف
حليفها الديني وحده، في حين أن الطرفين يتحملان المسؤولية
ويمتلكان ذات الخصائص المحافظة التي لا تميل بطبعها الى السياسات
الإصلاحية ولا الى تبني المفاهيم (الوطنية) ولا الى تفعيل دور
الجمهور في صنع السياسات، بل أن المؤسستين وبسبب طول مدى
الإحتكار السياسي منذ تأسيس المملكة، لديهما الإستعداد للقتال من
أجل ديمومته.
ولهذا فإنه ليس صحيحاً ألبتة، مقاربة موضوع الإصلاح السياسي في
المملكة، على أساس وجود جهة واحدة ترفضه رغماً عن أنف الحكومة
(العائلة المالكة) وأنف (الشعب). والصحيح أن هناك ثلاث جهات تقف
ضد التغيير وإبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه: الجهة الأساس هي
العائلة المالكة، والجهة الثانية هي المؤسسة الدينية، والجهة
الثالثة هي النخبة البيروقراطية التي تسيطر على مفاصل الدولة
والتي هي في اكثرها ذات منبت مناطقي (نجد تحديداً). وهذه الجهات
التي تشترك في كونها كلها (نجدية) تقريباً، هي الأكثر انتفاعاً
بديمومة الحال، ومقاومة رياح التغيير والإصلاح، ولكن الذرائع
تختلف من طرف لآخر. فقد تميل المؤسسة الدينية الى الإستناد على
التراث الحنبلي الوهابي المتشدد في رفض الإصلاحات وتوزيع مراكز
السلطة، في حين تبرر العائلة المالكة جمودها بذريعة الدين إضافة
مزاعم الحق التاريخي بالتملك للتراب والدولة بما فيها من سلطة
وثروة وقيمومة على المجتمع، في حين قد يفلسف البيروقراطيون
النجديون الأمر على أساس أن المجتمع غير ناضج، وأن الديمقراطية
او الحريات قد تمزق المجتمع، كما ظهر ذلك فعلاً من بعض الكتابات
خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
ثانياً ـ يستبطن سؤال: كيف تتم دمقرطة السعودية دون وقوعها بيد
المتشددين، مسألة حجم التيار السلفي المتشدد، أو حتى غير
المتشدد، حيث يفترض السؤال أن التيار السلفي هو الذي سيسيطر على
الإنتخابات وسيوصل مرشحيه الى البرلمان وبالتالي ستزداد قوته
أكثر فأكثر، الأمر الذي يجعل المملكة أكثر تطرفاً مما هي عليه
الآن في سياساتها المحلية والخارجية.
لكن هذا الإفتراض المسبق غير صحيح لأسباب عديدة. من بينها أن حجم
التيار السلفي ومركزه الأساس في نجد ورغم صوته العالي وسلطته
الكبيرة التي حوّلتها العائلة المالكة إليه، لا يمثل أكثرية في
المملكة، ولا يمكن أن يفوز السلفيون بأصوات خارج دائرة نفوذهم
التقليدية. فالخارطة المذهبية للمملكة لم تتغير كثيراً وإن غيّبت
الأصوات الأخرى التي تكشف عن تنوع البلاد ثقافياً ومناطقياً
ومذهبياً وقبلياً. والوهابية النجدية لم تستطع حتى الآن القفز
على تلك الحواجز رغم مرور نحو مائة عام على قيام سلطتهم وفرض
مذهبهم رسمياً. بل أن المذهب السلفي لم يستطع أن يقفز على
الولاءات القبلية فضلاً عن المناطقية، وهي أمور نجح فيها (فيما
يتعلق بالقبلية) قبل قيام الدولة ولكن إلى حين. هل يمكن أن ينتخب
الناس مرشحيهم على أسس مذهبية فحسب؟ وهل يستطيع السلفيون النجاح
ـ حتى في مناطق نفوذهم الديني ـ ويتغلبون على عقبة القبلية؟
بمعنى هل المرشح السلفي قادر، وهو في عقر داره على مناطحة خصمه
القبلي؟ هذا مشكوك فيه، كما هو مشكوك في (بل مستحيل) أن ينجح
مرشح سلفي في بيئة حجازية أو شيعية.
ولأن السلفية بكل فئات معتنقيها او المحسوبين عليها لا يمثلون
30% من السكان، فإن الحصة التي سيأخذها التيار ـ إذا نجح في
الحصول على كل الأصوات حسب الولاء المذهبي ـ لن تزيد عن ذلك
العدد. لكننا نعلم أنه حتى الـ 30% غير متيسرة، والسبب يكمن أنه
لو قامت الإنتخابات في نجد، فإن المفاضلة لن تكون على أساس مذهبي
بل على أسس أخرى، فالمرشحون النجديون سيكون بينهم العلماني
والليبرالي والبيروقراطي والقبلي وهؤلاء لن يُطاح بهم بالضربة
القاضية، وسيكون من المتعذر أن تكون كل أصوات نجد لصالح رموز
التيار الديني المعتدل أو المتشدد.
وبالتالي، فإن المبالغة في تصوير قوة التيار السلفي وأنه سيختطف
الدولة عبر صناديق الإقتراع، كما اختطفها بدعم حليفه السياسي
ردحاً من الزمن عبر الفرض والعنف، ليست واقعية؛ ولعلّ التيار
السلفي ورموزه يدركون أكثر من غيرهم أن أية انتخابات ستحدث في
المملكة، وعلى أي صعيد تقوم محلياً أو وطنياً أو غيرهما، فإنها
ستقتطع منهم حصّة من السلطة كانوا قد أخذوها بدون انتخاب أو قبول
جماهيري. لا يجب أن يعمينا علو الأصوات والقدرة الهائلة على
الحشد التي يتمتع بها التيار السلفي، ولا كثرة الرموز الدينية
السلفية عن مسائل في غاية الأهمية لها علاقة بعدد الأصوات، وليس
عدد الميكرفونات ولا عدد المرشحين. ولعل البعض يعتقد ـ وقد يكون
صحيحاً ـ أن كثرة الرموز والوجوه لدى التيار السلفي تسبب له
مشكلة في الإنتخابات، فالرؤوس التي ستقدم نفسها كثيرة في
مواطنها، وبالتالي فالمنافسة والصراع السياسي سيكون شديداً أيضاً
بين المرشحين السلفيين أنفسهم.
وعلى هذا الأساس، نتفهم لماذا لا يريد السلفيون الإنتخابات،
فالتعيين وقوة الصوت ودعم السلطة يعطيهم حصّة أكبر بكثير من
حجمهم الحقيقي، ومن حجم أتباعهم على مستوى المملكة نفسها. فهذا
التيار قضم كل حقوق الفئات المهمشة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً
في كل مؤسسات الدولة، ولو كانت هناك انتخابات لما تضخمت قوتهم.
إن ما لديهم من سلطة اليوم ليس صناعة ذاتية، بل هي آتية من
التفويض القادم من دواليب العائلة المالكة. وهذا ينطبق أيضاً على
النخب النجدية الحديثة التي تقبض اليوم على كل مفاصل السلطة
تقريباً.
ثالثاً ـ إن سؤال: كيف نصلح السعودية دون أن تقع بيد المتطرفين
السلفيين، يحمل معاني الإنتقائية وازدواج المعايير، فالتيار
السلفي جزء أصيل من مجتمع المملكة، لا هو بالطارئ ولا هو خارج
اللعبة اليوم لكي يكون خارجها غداً. التيار السلفي مساهم في
تأسيس الدولة القائمة، ومساهم في إدارتها، ورغم الإختلاف الكبير
معه، فإن حدود الخلاف تقف عند قبول التعددية والحرية واحترام
المواطن وحقوقه والقبول بالتعددية السياسية. حين يقبل هذا، لا
يهمّ حينها أن يكون قد أخذ عشرة بالمائة أو تسعين بالمائة. وما
تنتجه صناديق الإقتراع يجب أن يكون مقبولاً. ليس من الصحيح هندسة
نظام انتخابي قائم على الإقصاء، ولمن؟ لأقوى التيارات وأشدها
عنفاً وتطرفاً؟ لا يجب أن يفكر أحدٌ فينا في كيفية إقصاء أحد،
مهما كان الخلاف، هذا إذا ما قامت الإنتخابات، ولا يجب أن نبشر
بهكذا أفكار، لأن الإقصاء يؤسس لمنهج خطأ، ويحرّض على العنف،
ويمنع عن الآخر حقه الطبيعي في أن يعبر عن جماهيره كثروا أو
قلّوا.
بيد أن الغربيين، الذين لا تخفى خصومتهم لكل ما يمتّ الى الإسلام
والحركات الإسلامية بصلة، يريدون ديمقراطية حسب مزاجهم،
ديمقراطية مسيطر عليها، تأتيهم بأشخاص على مزاجهم، هم يريدون
ديمقراطية لا تفيد المشاركين فيها بقدر ما تفيد القيمين عليها
(أي هم) ومثل هذا الأمر وجدناه في أماكن أخرى من العالم العربي
والإسلامي وقد نشهد مثيلاً له في العراق في قادم الشهور.
بهذا المعنى تصبح الديمقراطية غشاءً رقيقاً لممارسة أعمال غير
ديمقراطية. والغريب ان الغربيين يصرحون بمثل هذه الأمور قبل أن
تقوم الإنتخابات وقبل أن تقرر الحكومة ـ حليفتهم ـ الولوج فيها
أو حتى القبول بها، بل قد يستبقون الأمر فيوزعون حصصاً هنا وأخرى
هناك.
لا شك أن الوهابية تمثل مشكلة للدولة والمجتمع؛ بيد أن المشكلة
ليست في محتواها فحسب، بل في تبني ذلك المحتوى وفرضه. بمعنى آخر
إن مشكلة الدولة هي في الأساس مشكلة سياسية أُعطيت غطاءً دينياً،
والوهابية بهذا المعنى أداة، ولكنها في واقع الأمر أكثر من أداة،
فقد استقلّت بجزء كبير من ذاتها عن السلطة، ورغم أنها تعيش على
معونات السلطة ومساعداتها وتفضيلها، إلا أنها من جهة أخرى
استكملت بناءها الفكري والعقدي بالشكل الذي لم يعد بالإمكان إلا
انتظار الضرر منها.
وإذا كانت الوهابية بنسختها الحالية عدوة للحريات والتعددية
الثقافية، ومعادية لكل ما يمت الى الوطنية بصلة، وتقوم بخنق
المجتمع عبر توسيع دائرة المحرمات، وإذا كانت الوهابية لا تزال
تحمل عنفوانها القديم من جهة تكفير الآخرين والسعي الحثيث
لإدخالهم في الدين الجديد، الخالي مما تعتبره شركاً وهرطقة.. فإن
عناصرها الموتورة هذه لم تجر محاولة تطويعها رغم صعوبة ذلك. لو
كان الأمراء السعوديون يريدون ذلك إذن لاستطاعوا خلال العقود
الماضية من فعل شيء ما. فقد طوعت المفاهيم المتطرفة في مجالات
عديدة، وجرى لي عنق الأدلة الشرعية في كثير من الأحيان، لكن فيما
يتعلق بموقف السلفية من الإصلاحات ومن التكفير فإن العائلة
المالكة كانت ترى في بقاء ذلك فائدة لها، خاصة في مجال التكفير،
الى أن جاء الوقت ليجد الأمراء أنفسهم في دائرة المشمولين
بنيرانه. واليوم يسعى الأمراء للتخفيف من هذه الغلواء التكفيرية،
لكنهم ـ في المدى المنظور ـ لن يطوعوها باتجاه قبول الإصلاحات
السياسية لأنهم هم في الأساس لا يريدون هذه الإصلاحات.
ولعلنا نتفهم الآن لماذا يصر الأمير نايف على إبقاء تحالفه مع
المتطرفين السلفيين في مؤسسات الدولة. فإذا كان نايف وأمثاله
ينظرون الى الإصلاحات والإصلاحيين كخطر، فإن أقرب حليف له هم
هؤلاء الذين عززت قواهم خلال العام الماضي بأكثر مما يتوقع.
ومهما تكن الأحوال، فإن الإصلاحات إن لم تأتِ قريباً، فإن
العائلة المالكة والدولة كلها بما فيها المؤسسة الدينية ومذهبها
الرسمي سيتعرضون لخطر تقسيم الدولة، والإطاحة بكل ما هو وحدوي
حتى اليوم. الإصلاح ضروري للدولة وللمؤسسة الدينية لو عقل
الطرفان، وقدما بعضاً مما لديهما من سلطات.
|