قراءة منصور النقيدان لتحوّله الفكري

تعايش المعتقدات خياراً

 عبد الله الراشد

 

منصور النقيدان ليس استثناءً في حركة تحوّل الافراد من خط فكري الى آخر، فقد سبقه ولحق به كثيرون من مدارس فكرية أخرى ليس داخل الاتجاه السلفي، أو الاسلامي او الديني او الانساني بصورة عامة، فحركة تحوّل الافكار تظل دائماً زاخرة بالافكار الجديدة والافراد الجدد، طالما أن ظروف التحوّل وعوامله تكون فاعلة بالقدر الذي يمنح الافراد الفسحة الكافية لفحص المتبنيات الفكرية الذاتية واخضاعها تحت آليات اختبار أخرى غير مصنّعة من داخل المدرسة الفكرية التي تنتمي اليها.

النقيدان ليس بالضرورة انتكاسة للفكر الذي كان ينتمي اليه، تماماً كما أن انفصال غيره من المدارس الفكرية الاخرى لا يعبّر عن انتكاسة لها، فهذه التحوّلات تمثل القانون ساري المفعول على المدارس الفكرية قاطبة، وإذا كان التركيز هنا عن تجربة النقيدان فلأنها تأتي في سياق جدل متصاعد حول مدرسة فكرية ظلت خارج دائرة الفحص والمراجعة. ومنذ الحادي عشر من سبتمبر بدأت هذه المدرسة ـ السلفية الوهابية تشهد حركة مراجعة داخلية بعضها يستهدف إعادة ترصين النظام العقدي بداخلها، والاخر يستهدف تحريرها من النزعات الراديكالية الصارمة، وبعضها الآخر يستهدف تخفيضها الى مستوى المجهود البشري الذي ينفي عنها صفة القداسة وينزلها منزلة الافكار الانسانية الخاضعة لمقاييس التصويب والتخطئة.

على أية حال، فقد رمى النقيدان حجرا آخر في البركة الراكدة، وقرر ان يشق قناة منها لتحريك مياه البركة تلك باتجاه يصفه النقيدان نفسه بالانساني مع أن معالمه شديدة الوضوح. وبالنسبة لكثيرين فإن السؤال الجوهري في هذا التحوّل هو: هل ترشح فعلاً الاتجاه الليبرالي الخارج من عباءة التيار السلفي الى لعب دور اصلاحي جوهري يكبح غلواء التطرف داخل التيار الديني في معاقله التقليدية وبخاصة بريدة عاصمة إقليم القصيم. الاستاذ منصور النقيدان من بين فئة قليلة انتظمت بصورة عفوية داخل إتجاه ايديولوجي جديد يجمع بين عناصره تحدّرهم من بيئة فكرية مغلقة، ومنطقة جغرافية معزولة ثقافياًالمفضية الى انعدام التواصل الحضاري مع الآخر وبخاصة خارج الحدود، واخيراً الانفصال عن المسيرة التقليدية التي كانت تشدّ عناصر هذه المجموعة التي ينتمي اليها النقيدان، وهي مسيرة تجتمع فيها الرؤية الدينية الصارمة، بالسلوك المتزمت، بالرؤية الكونية المغلقة، القائمة على أساس توثين العالم والواجب المنزل بتغييره.

في لقاءه مع (العربية) في الخامس عشر من سبتمبر، أضاء الكاتب منصور النقيدان بقعة مهملة في حركة المراجعة النقدية للوهابية. فقد تحدث عن جماعة أطلق عليها (إخوان بريدة) وهو بحسب النقيدان مسمى اقليمي يخص مجموعة لا تعدو أن تكون سوى امتداداً للاخوان الذين كانوا هم يشكلون المطاوعة في عهد الملك عبد العزيز ومن بداياته. وهم في الواقع الطليعة الفدائية وحرّاس العقيدة وخط الدفاع الاول عن المذهب الوهابي.

وبالرغم من الاندغام الايديولوجي بين الاتجاهين، فإن أهم فارق بين اخوان بريدة والاخوان السابقين أن أخوان بريدة مثّلوا الخط المعتدل غير الثوري وهم الموالون للحكومة السعودية وولاة أمرها، والانقياد بصورة شبه تامة لكل من تسنّم العرش من آل سعود. وهذا الاتجاه التقليدي يمثل الترجمة الامينة للوهابية التقليدية كما بشّر بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولكن ليس في معارضة الوسائل الحديثة مثل التلفزيون والتلفون والتعليم وغيرها. بكلمات أخرى، أن الراديكالية التي تميّز بها اتجاه (اخوان بريدة) لا تؤول الى استعمال العنف كطريقة في التغيير، الى جانب ذلك فـ (إخوان بريدة) يمثلون حركة اجتماعية انعزالية تصوّفية تميل الى نبذ الانشغال بشؤون الدنيا باعتبارها مصدر الفتن ومواطن الشبهات، مع التشديد على موالاة السلطة الدينية الممثلة في نظرهم في أسرة آل سعود. وهذا الموقف يستدعي رؤية الامام أحمد بن حنبل الذي أبقى على يد الطاعة مع السلطة العباسية ولكنه في الوقت ذاته كان يلوذ بالانكفاء عن الدنيا بالزهد في شؤونها.

كان عدد أفراد (أخوان بريدة) في السنة الدراسية 1404 ـ 1405 الموافق 1985 ـ 1986 يصل ـ بحسب النقيدان ـ ما بين 200 الى 300 عضواً. وقد كان لهم مدارس خاصة وأشهرها المدرسة العلمية الاهلية التي لم تكن خاضعة لوزارة المعارف، فكان القائمون عليها يضعون مناهجها المستمدة من التفسير الديني السلفي للكتاب والسنة والتاريخ.

إن من أكثر مآخذ القائمين على مدارس (أخوان بريدة) على مادة الجغرافيا التي يتم تدريسها في المدارس النظامية هو ما يذكر في نهاية كل فصل من أن الرابطة بين المملكة بدول مثل البرازيل او الصين او الولايات المتحدة يجب أن تحتكم الى معايير دينية تقوم على علاقة البراء المستمدة من تعاليم مؤسس المذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

في التكوين الايديولوجي لجماعة (أخوان بريدة) تبرز فكرة الهجرة الاصلية لدى هذه الجماعة، وهي الاخرى فكرة جوهرية في المذهب منذ رسّم الشيخ محمد بن عبد الوهاب حدود دار الاسلام والطاعة ودار الحرب والمعصية واستجلب الى الدرعية حيث مركز دار الاسلام مجاميع من المؤمنين بدعوته الذين كانوا يُعدّون ليوم ينقضّون فيه على دار الشرك لتطهير الجزيرة العربية التي ملئت بحسب عقيدتهم بممارسات الشرك وعبادة الاوثان وتقديس الاولياء والتوسل بالاشجار والاحجار. وعلى حد قول أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله الحصين مؤلف كتاب (دعوة الامام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية) (فالناس في نجد قد عادوا الىالجاهلية الاولى.. عادوا الى الشرك، وعبادة الاحجار والأشجار، لتقربهم الى الله زلفى). واستدراكاًَ، فإن ثمة رأياً يناهض زعم الشرك في نجد وغيرها من المناطق، يضع الرؤية الدينية السلفية للمجتمع في سياق الجنوح العارم داخل الاتجاه السلفي الذي كان يقوده الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتوفير مبررات دينية كافية للغزو الملطّف بعبارتي الاصلاح والدعوة.

إن هذا ينبه بشكّل مدوّي الى أن تحميل الامير نايف لجماعة الاخوان المسلمين ونشرها لفكر التطرف والعنف هو مرواغة مفتعلة لصرف الانظار عن المخزون الراديكالي بداخل المذهب الرسمي. إن فكرة الهجرة من دار الشرك الى دار الاسلام داخل المجتمع الواحد، والاقليم الواحد بدأت في العصر الحديث في نجد، وأول من طبّقها بصورة عملية هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدرعية، أي قبل نحو قرنين من ظهور تيار التكفير والهجرة في مصر والذي تشكّلت خلاياه الاولى داخل المعتقل من قبل فئة منشقة عن تيار الاخوان المسلمين.

وبحسب شهادة النقيدان (إنني حينما أرجع إلى أدبيات الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد في مصر بعد مقتل السادات كثير من أدبيات القاعدة وغيرها كثير من أعداد مجلة صوت الجهاد التي هي اللسان الناطق لتنظيم القاعدة في السعودية, هي ليست بعيدة كل البعد عن الأصول الفكرية للوهابية: الولاء والبراء.. التكفير موجبات التكفير شروطه وموانعه وما هي مسببات التكفير؟ هذه الأشياء كلها موجودة فيها وبالتالي لا يمكن أبداً أن تفكّ هذه الأفكار عن أصولها..).  

وعودة الى السياق، يعتبر (اخوان بريدة) النسخة المنقّحة للاخوان السابقين وبخاصة فيما يرتبط بموقفهم من الوسائل الحديثة، فليس لديهم موقف سلبي من ركوب السيارة والافادة من المنتجات العصرية، وبحسب منصور النقيدان فإن من اخوان بريدة تجاراً ورجال أعمال وفيهم من يزاولون تجارة العقارات، والتمور، والعطور، ويسكنون الفلل ويركبون أفخم السيارات، ويرتدون أحسن الملابس. وفي الوقت نفسه، فإن فيهم من يتبنى أفكاراً راديكالية وتشدداً.

ان نقطة التحوّل الرئيسية في بنية وعقيدة هذه الجماعة وقعت بعد حرب الخليج الثانية 1990 ـ 1991 التي كانت نقطة تحوّل تاريخية في جماعة إخوان بريدة وهكذا باقي الجماعات السلفية الاخرى ومن عداهم ايضاً وفي الواقع للظاهرة الاسلامية بكافة اطيافها في المملكة والخليج. وقد كان منصور النقيدان عضوا في جماعة (إخوان بريدة) حتى بداية التسعينيات قبل أن يتنكّب منها الى تبني الافكار الليبرالية والحداثوية أو بحسب توصيفه الانسانية.

يعتبر منصور نفسه مديناً للتكوين المعرفي والشرعي الذي دام خمس سنوات، كان فيها منصرفاً الى تشرّب كتب السلف وتعاليمهم، ولكن حرب الخليج عام 1990 ـ 1991 كان مفصلاً في الظاهرة الاسلاموية السلفية في السعودية وفي حقيقة الامر لمجمل الايديولوجيات السائدة في الشرق الاوسط بما فيها الاسلامية والقومية. ولعل ناقوس الخطر الحقيقي دق بعنف شديد مع وصول القوات الاجنبية والاميركية الى الجزيرة العربية، والذي تم موضعته في سياق احتلال ميركي لبلاد الحرمين الشريفين. وكرد فعل على هذا المتغيّر الخطير، نشأ إتجاه تكفيري لأول مرة يقتحم ميدان السياسة ويزاحم السلطة في صناعة القرارات الكبرى المصيرية. والانكى أن حدث الحرب فجّر مخزوناً متراكماً من التمرد ضد سياسات الدولة وبرامجها، حيث كانت المحاضرات الدينية لقادة التيار السلفي تتجه الى نقد مؤسسات وسياسات الدولة كافة والتي جاءت (مذكرة النصيحة) كيما تقدّم علاجاً شاملاً لأزمة الدولة بالكامل.

كان منصور النقيدان من بين أولئك الذين خضعوا تحت تأثير التوجيهات الدينية الصارمة التي كانت تبث عبر أشرطة المحاضرات الدعوية بضرورة الاضطلاع بدور ما في داومة الاحداث التي تعصف بالبلاد، ولربما كان الفساد الاجتماعي هو الهدف الأسهل للتعبير عن الالتزام الديني وتطبيق عملية الاصلاح من مستويات دنيا صعوداً الى اصلاح رأس السلطة. ووجد منصور نفسه ضمن مجموعة أخرى تحمل ذات الهموم والتطلعات والنوايا المبيّتة للقيام بأعمال تصنّف في قائمة الاصلاح الديني الاجتماعي. فكان شن الغارة على محلات الفيديو يمثل الشكل الابتدائي للجهاد والتجربة التأهيلية الاولى لخوض حرب واسعة النطاق لتغيير الفساد في الامة. ونجحت المجموعة التي كان منصور النقيدان أحد أعضائها في تفجير محل لبيع أشرطة الفيديو في الرياض، ولكن ما لم يتوقعه أفراد المجموعة أن القاضي الذي كان يفترض اعتماده الرؤية الشرعية في التعامل مع محال الفيديو باعتبارها مصممة لنشر الرذديلة واشاعة الفساد وبالتالي فإن اتلافها لا يقتضي التعويض وأن العقاب غير واقع على من أتلفها، فقد حكم على افراد المجموعة بالسجن لمدة 16 عاماً، لولا ان تداركهم العفو الملكي بعد سنة وثمانين أشهر.

 غير أن فترة السجن هذه كانت تمثل الانعطافة الحقيقية في حياة منصور النقيدان وعدد آخر من (أخوان بريدة) وغيرهم من الاتجاهات السلفية. ففي السجن أعاد النقيدان قراءة الذات السلفية، وفتح عينيه على مدارس فكرية أخرى، ومن هناك تشكّلت النزعة الليبرالية بمعناها الفكري بدرجة أساسية. وفي سجن الرويس بجدة كانت تدشينات الافكار المختلفة والاسئلة الجديدة قد وضعت استعداداً للانطلاق نحو مغادرة القاعدة القديمة نحو فضاء تكتظ فيه الافكار على أفق لا محدود ومتنوع. فضاء يمتلىء بالرؤى والفلسلفات والتصورات عن الكون والحياة والمجتمع والتاريخ وليست بالضرورة تصدر عن موقف عدائي للأديان والرسالات السماوية بقدر ما هي الدوافع البشرية الفطرية التي تجنح بالانسان نحو البحث عن اجابات لأسئلة ينتجها الانسان وتنتجها الطبيعة الكونية.

يذكر منصور النقيدان تجربة المعتقل ودورها ايضاً في تحوّله الفكري، وهو هنا يسجّل شهادة إدانة ضد وزارة الداخلية والاساليب الوحشية التي كانت تستعمل ضد السجناء داخل المعتقل وفي فترات التحقيق القاسية. يقول النقيدان ما نصه:

(في سجن الرويس أنا أعتقد أنه كان هناك أخطاء كبيرة تمّ اقترافها تجاه السجناء، كان هناك اعتداء من قبل إدارة السجن لكثير، وتمّ الإساءة لكثير من السجناء، وأنا أعتقد أن وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز في مقابلة مع جريدة القبس قبل سنتين ألمح إلى هذا وأن هذه أخطاء فردية. سواء كانت أخطاء فردية أم كانت عن علم لدى المسؤولين بكل ما يحصل فإنها كانت مؤلمة لي جداً، كان أكثر ما يؤلمني أن يخرج الواحد من الزنزانة إلى مكتب القضاء ويشكو إلى الشيخ تلك المعاملة السيئة التي يتمّ التعامل بها معه في مكاتب التحقيق، وبالتالي يقول له الشيخ إذاًَ كيف تعترفون إذا كنتم لا تُضربون ولا تُجلدون، لا بد من أن يمسّكم عذاب..

كان هناك أخطاء كبيرة جداً، كان هناك اعتداء، كان هناك تعرية لكثير من ملابسهم، كانت هناك أخطاء كبيرة جداً ومعاملة لا إنسانية، حتى يبلغ الحال أن نشتري علاجنا، العلاج وحينما نمرض نشتريه من جيوبنا، تلك اللحظة أنا أعتقد أنها كانت هي الشرارة الأولى..).

يعتقد منصور وهذا لعله جزء من وفائه لمنشأه الفكري الأول، أن الوهابية هي المكافىء الايديولوجي للقومية في صناعة الكيان السياسي السعودي، ودورها المحوري في صناعة العصبة النجدية التي بسطت حسب توصيفه رواقها على أنحاء من الجزيرة العربية وقيام الدولة السعودية الثالثة. ولكن في الوقت ذاته، يعتقد بأن الوهابية قد أدّت مهمتها التاريخية والسياسية وأنها لابد أن تخضع اليوم لعملية فحص دقيقة من أجل اعادة اختبار جدارة وآهلية كثير من أفكارها في ضوء تغير مفهومي الدولة والمجتمع، بمعنى أن مفهوم الدولة الحديثة لا يتعايش مع مضامين الايديولوجية الوهابية القائمة على أساس تهديم أركان الدولة الحديثة ونفي لمكوناتها الاساسية، عن طريق الاستعمال المفرط والكثيف لمفاهيم الحكم الديني المرتكز على البيعة والولاء والطاعة والجهاد ودار الحرب ودار الاسلام وغيرها.

منصور النقيدان ينتمي اليوم الى الاتجاه التنويري الذي يؤمن بحرية الفكر ومبدأ التعددية داخل الدائرة الاسلامية، ولذلك فهو على الضد من اقصائيته السابقة وواحديته السالفة يدعو الى تشكيل مجلس فقهي اسلامي يضم المذاهب الفقهية السائدة في المملكة، ويعتبر ذلك مدخلاَ رئيسياً للتعايش داخل الكيان القائم.

قد يتفق معه البعض وقد يختلف وقد يكنّ له البعض العداء، ولكن في كل الاحوال، يعتبر النقيدان وآخرون من لدّاته مثل مشاري الذايدي وعبد الله بن بجاد العتيبي وغيرهم بكل الجدل الذي يثيرونه بداية تشكّل إتجاه فكري قد يصنّف بأنه متمرد على العقائد القديمة ولكنه يرسي أساس عقلنة فكرية تتوطن الافكار الجديدة ويقرّ حق الآخر في الاختلاف. إن شهادات الآخرين مثل الذايدي والعتيبي لا تقل أهمية عن شهادة النقيدان، من حيث البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها أخوان بريدة والعوامل الفاعلة التي أسهمت في توفير أجواء التحوّل الفكري وانهدام البناء العقدي الذي كان يستند اليه.