العيد الوطني السعودي: الأسطورة والواقع
أ.د: مضاوي الرشيد
يحتفل النظام السعودي سنويا بعيده الوطني يوم 23 ايلول (سبتمبر)
ولن نتطرق في هذه المقالة الي شرعية مثل هذه الاعياد في دولة
تجزم انها قامت على دعوة محمد بن عبد الوهاب والتي لها موقف
معروف من مثل هذه البدع والتي اعتبرها اعلام هذه المدرسة الدينية
خلال القرن العشرين من باب التشبه بالكفار وعاداتهم لذلك يجب
محاربتها واثبات عدم شرعيتها. سنترك هذه الامور ولن نتطفل على
هيئة كبار العلماء اذ انهم ذوو الاختصاص في مثل هذه المسائل
ولكننا على اقتناع تام ان عملية ترويض فكرهم كانت قائمة على قدم
وساق خلال العقود الماضية. هذه العملية قد تكون حجر عثرة يحول
دون تأملهم لهذه البدعة حســـب قاموسهم.
سنقف عند هذا الحدث المسمي العيد الوطني السعودي لنطرح موضوع
التحولات التاريخية التي احدثها النظام وفرضها على المجتمع
المسمي اليوم هو ايضا بـ السعودي . من منظور النظام يعتبر العيد
هذا احتفالا بتوحيد البلاد تحت راية المؤسس ابن سعود وهي مرحلة
استغرقت ثلاثة عقود تقريبا. في هذه الرواية يغيب طبعا دور
بريطانيا العظمي كليا وهذا من الطبيعي، فلا توجد دولة او نظام
يقر بالدور الخارجي الذي على اساسه يتم اصطناع الدول. ويبقي هذا
العامل من شأن الاكاديميين يحللونه ويفسرونه ويقيسون مدي اهميته
في تشكيل الكيانات الجديدة كالدولة السعودية. اما الخطاب
التاريخي الرسمي الدعائي فهو يصور التوحيد وكأنه انجاز حضاري
وتاريخي لأسرة واحدة تحت قيادة صقر الصحراء و رجل البادية .
اسطورة التوحيد تعتمد على ازدواجية متمثلة بالجانب السياسي وهو
توحيد المناطق تحت راية سياسية واحدة وتوحيد ديني تم على اساسه
اسلمة المجتمع واعادته الي الصراط المستقيم ومرة اخري تحت راية
اسرة واحدة. ليس من الصعب تفكيك هذه الاسطورة التاريخية اذ انها
ككل الاساطير تنشأ في ظرف معين وتكتسب رواجا كبيرا ولكنها مع
الزمن تتفكك وتتلاشي خاصة عندما تفقد قدرتها على الاقناع.
اولا: اسطورة ابن الصحراء والبادية لا تعتمد على حقيقة تاريخية
مثبتة بل من المسلم به ان الاسرة السعودية الحاكمة اسرة حضرية لا
علاقة لها بالبادية اذ انها كانت تمارس التجارة والزراعة. وهيمنة
هذه الأسرة على مجتمع كان حينها مجتمعا بدويا بأكثريته يتطلب خلق
نوع من اللحمة العضوية بين الاسرة الحاكمة والمجتمع القبلي
والبدوي.
ثانيا: رسالة التوحيد والتي على اساسها شنت الاسرة السعودية
غزواتها بهدف اسلمة المجتمع وتنقية العقيدة والممارسات الدينية
والقضاء على الشرك والبدع كانت راسخة في ذلك المجتمع رغم ان
مجتمع الجزيرة في بداية القرن العشرين قد مارس طقوسا وشعائر
محلية ربما قد انحرفت عن مبدأ التوحيد ولكنه لم يكن حينها مشركا
كما زعمت اسطورة النظام. ان بعض الممارسات الدينية كالتبرك
بالاشجار وزيارة القبور وتكريم الاولياء انما هي ممارسات محلية
تعكس ثقافة خاصة وهي نتيجة حتمية في مجتمع أمي لا يقدر على تلقي
الرسالة الدينية وفهمها بطريقة مباشرة من الكتاب. لذلك هو يلجأ
الي الاشخاص او الممارسات ليعبر عن روحانية ورغبة في الاتصال مع
الخالق عن طريق وساطة ما. ونلاحظ انه كلما زادت المعرفة وانتشر
العلم والقراءة كلما انحسرت هذه الممارسات الشعبية وتلاشت كليا.
لقد كان مجتمع الجزيرة موحدا رغم هذه الممارسات. لذلك يجب الفصل
بين اسطورة التوحيد السياسي واسطورة شرك المجتمع والتي يعتبر
النظام نفسه مسؤولا عن ازالتها من خلال مشروع الهيمنة السياسية.
ثالثا: كان التوحيد السياسي المحتفل به اليوم باهظ الثمن. جردت
عملية التوحيد هذه مجتمعات الجزيرة المتعددة (الحضرية والبدوية)
القبلية وغير القبلية من قدرتها على صنع القرار وتحديد المصير.
استغلت الدولة اسطورة اخري تزعم فيها انها روضت المجتمع الشرس
المتقاتل وحولته الي كتلة منصهرة متجانسة لها وطنية خاصة. وما
ابعد هذا عن الواقع على الارض. عملية التوحيد السياسي اقتصرت على
وحدة الجغرافيا اذ نتج عنها دولة لها حدود متعارف عليها دوليا
ولكنها غير متفق عليها محليا ومع دول الجوار. وقد اسبغ على هذه
الوحدة الجغرافية صبغة السعودية . فرض النظام على المجتمع مقابل
هذه الوحدة هويته هو. فعمم الخاص على العام وهو المجتمع بكافة
اطيافه. ونتساءل ما هو مدى استتباب هذه الوحدة الوطنية؟
في السبعينات نجح النظام في الصاق هذا المسمي السعودي بالمجتمع
وقد ساعده في ذلك الطفرة النفطية والتي اغنت الكثير ولكنها في
نفس الوقت كانت عامل تفرقة ولد الكثير من التناقضات الاجتماعية
والسياسية والاقتصادية لم يستطع النظام ان يستوعبها فيما بعد.
ولكن نجحت اسطورة الوحدة الوطنية، ولفترة قصيرة صدقها طيف كبير
من ابناء المجتمع وراح ينظّر لها ويروجها وخاصة عندما ارتبط
مصطلح سعودي ارتباطا حميما بحق الانتفاع من الثروة النفطية عن
طريق الوظائف والعمل والدراسة وامتلاك الارض والشركات واكتساب
البعثات للدراسة وغيره. اصبح سعودي يترجم على انه بطاقة تخول
صاحبها للحصول على حصة ما من الغنيمة الكبرى وهي الدولة
ومواردها. وأتي هذا في مرحلة تميزت بقدوم اليد العاملة الاجنبية
وهي بالطبع لم تكن تمتلك ايا من هذه الصلاحيات والحقوق. وفي
مرحلة الثروة النفطية المفاجئة كرس النظام المجتمع كجمهور غفور
مستعد للتغاضي عن ممارسات النظام المحلية وسياسته الخارجية
ومخصصات رموزه. أنست الثروة النفطية المجتمع حقوقه وحولته الي
مجتمع سلبي يغفر زلات الدولة وتجاوزاتها. في حينها انشغل الكثير
بملء الجيوب بنهم ولهفة المجتمع الجائع الذي وقع فجأة على مائدة
فاخرة فأصابته تخمة أدت الي استقالته من المسؤولية. ظهرت طبقات
اجتماعية جديدة اثرت نفسها طالما انها كانت مستعدة لان تهضم
اسطورة الوحدة الوطنية وتبتلع المشروع السعودي دون اي تساؤل.
في الثمانينات تبين للجميع ان الثروة المبنية على سلعة خاضعة
لقرار السوق العالمية تتعرض للمد والجزر، وعندما تقلصت هذه
الثروة بسبب سياسات الانفاق والتبذير المسرف وانحسرت المعونات
وتقلصت فرص العمل وبدأ النظام يروج لشد احزمة الغير وليس احزمته
هو ويروج لخطاب التقشف نجد ان مفهوم المواطنة والوحدة بدأ هو
ايضا يهتز.
بعد ان تسلح المجتمع بالقلم والعلم بدأ يعيد النظر بسعوديته
المزعومة والمفروضة عليه. ومنذ اكثر من عقدين نرى ان المرويات
الشعبية والمقولات الشفوية وكذلك الكتابات المطبوعة تعيد احياء
شخصية المجموعات. واليوم نجد ان كل قبيلة تنبش تراثها وتاريخها
وكل عائلة تبحث عن شجرتها وكأن المجتمع قد سئم الاسواق
الاستهلاكية وملها، وها هو اليوم يبحث في سوق الانساب، وما
الحراك الفكري الذي يعود الي الذات الشخصية والفئة الاجتماعية
المحلية المتمثلة بالروايات الادبية وتدوين الشعر المحلي
والابحاث الاكاديمية عند هذه المنطقة او تلك، الا ظاهرة تعكس
حالة التململ ورفض اسطورة التوحيد الرافضة للخصوصية المحلية
والتي تصبو الي القضاء عليها ولو بالقوة، وهذه عادة وسيلة
الانظمة ذات الاساطير الهشة التي لا تلائم معطيات الواقع. ومن
المستغرب ان هذه الرجعة الى ترسيخ الانساب والهويات المحلية ليست
محصورة بالكتّاب فقط، بل ان حتى بعض علماء الدين ذوي الفكر
الاسلامي الاممي قد دون نسبه ونسب عشيرته حتى لا تندثر تحت
المظلة الهشة المسماة الوطنية السعودية . وقد رد النظام على عودة
المحلية وهجمة الانساب هذه بمحاولة احتوائها تحت مظلة احياء
التراث كمهرجان الجنادرية مثلا تحت رعاية ولي العهد. فمنذ منتصف
الثمانينات دخل التراث المحلي وثقافته في حضانة الدولة حتى تتم
عملية استيعابه والسيطرة على سبل ظهوره وانتشاره. وكان من
الطبيعي ان تطمس الابعاد السياسية لحركة احياء التراث والابقاء
على الفولكلور الشعبي، فمثلا اختصر تراث البادية بالخيمة والدلة
والجمال، اما الواحات والمدن والقرى فاختصرت حضارتها بصناعة
النعال والخناجر والسيوف وغيره. واعتقد النظام انه سيطر على
التعددية حتى ينعدم تسييسها. ولكن مقابل المنظورة السعودية
الفوقية تفجرت الخصوصيات المحلية التي اختزلتها الدولة بالتراث
المادي، اما الجانب المعنوي فظل مغفلا ومحاصرا. وظلت المناطق في
قبضة الحكومة المركزية تعتمد عليها اعتمادا كليا، وظلت امارة
المناطق محصورة في افراد العائلة الحاكمة او من ارتبط بها
بالمصاهرة. مقابل مركزية الدولة تحققت لامركزية المجتمع الذي دأب
النظام على توزيعه على المناطق المختلفة قاطعا بذلك انتماءه
للمحل المخصص له والذي نشأ به. فالموظف الاداري والعسكري ورجل
الامن وحتى المدرس والمدرسة مطلوب منه ان ينتقل الي المنطقة
المحددة له دون اي اعتبار لمنطقته الاصل لينسلخ عن محيطه وينخرط
في اسطورة الوحدة الوطنية. كان هدف هذه السياسة اقتلاع الفرد من
انتمائه المحلي لتكريس الهيمنة السعودية. وعندما تعالت الاصوات
محتجة على هذا الانسلاخ بدأ النظام يصف المجتمع وكأنه شارع
غوغائي معدوم الهدف والتوجه.
وما ان اطل القرن الحالي حتى بدأت الوحدة المزعومة والوطنية
المفروضة تفرز ردة فعل تشكك بالوحدة واعلامها بل ان بعض الاصوات
تطالب باعادة صياغتها ورسم حدود جديدة لها. ومؤخراً ردت الدولة
على هذه المطالب بقرار وزاري يعاقب موظفي الدولة الذين يشاركون
بأي عمل او خطاب او اتصال بالاعلام هدفه تقويض سياسة الدولة او
انتقادها. وبهذا القرار حول النظام الشارع السعودي الي فضاء فسيح
يشبه العدم. واذا عرفنا ان القطاع العام ما زال الموظف الرئيسي
اذ انه يستوعب اكثر من 40% من اليد العاملة نجد ان هذا القرار
يزيل هذه الفئة العاملة من الوجود. برر النظام القرار على انه
يرتكز على مبدأ الحيادية والولاء للوظيفة العامة، وبذلك كرس
النظام معادلة الوظيفة مقابل العبودية المطلقة. تطلب الدولة من
موظفيها ان يتجردوا من انسانيتهم لانها تختصرهم وتعتبرهم آلة
ميكانية او روبوت، اي انسان آلي، ينظر ولا يرى، ينصت ولا يسمع،
يتكلم ولا يقول، بل هو منفذ للاوامر فقط، وما ابشع العيش عندما
ينسلخ الانسان من انسانيته وقدرته على طرح علامات الاستفهام.
اليوم يحتفل النظام بهذا الانجاز العظيم.
ومن الضروري الاشارة الى كيفية تسويق هذا الاحتفال عالمياً وخاصة
الي المجتمع الانغلوسكسوني. وجرت العادة ان يشتري النظام صفحات
كاملة في جرائد ومجلات عالمية انكليزية مقابل مبالغ باهظة، وفي
عدد الايكونوميست 17/9/2004 نجد اعلانا يختلف عن اعلانات السنوات
الماضية والتي كنا دوماً نرصدها. في الماضي كانت احصاءات انجازات
النظام المزعومة المتمثلة بعدد المصانع والطرقات والمطارات تتصدر
الصفحة الدعائية كوسيلة لكسب الشرعية عن طريق الدور التحضيري
والتنموي. وربما كان هذا ملائماً لقراء هذه المجلة من رجال
الاعمال والصناعيين والقائمين على المؤسسات المصرفية، اذ ان
الصفحة الاعلامية المشتراة انما هي ايضا احتفال بدورهم هم كشركاء
في الوطن وهم بالفعل شركاء فيه وشراكتهم متمثلة في حصص التنمية
التي تربحها مؤسساتهم. هذا العام كانت الصفحة الاعلامية تختلف
كليا، اذ انها توجه رسالة مضمونها ان النظام يعارض الارهاب..
ويتبنى سياسة تحارب الارهاب.. وهو يؤيد الحرب على الارهاب..
ويعارض اطروحة صراع الحضارات. هذه رسالة النظام اليوم الى
شركائه: نستميت في سبيل ارضائكم . انها صرخة لا تحتفل بوحدة
وطنية، بل انها تبيع الوطن على صفحات المجلات الاقتصادية
الغربية.
اليوم نتساءل: اي وحدة وطنية؟ اي احتفال؟ وبأي حال عدت يا عيد؟
نقلاً عن القدس العربي (23/9/2004)
|