فلسفة العفو السعودي:
بين تجريم الرأي السلمي، ومشروعية حمل السلاح!
عباس بيضون
العفو الذي أصدره ولي العهد السعودي عن مسلحي العصابات لم يُصدر
مثله عن الشاعر علي الدميني ورفيقيه عبد الله الحامد ومتروك
الفالح. الثلاثة متهمون كما جاء في لائحة الادعاء الحكومية
بـ(إصدار بيانات) والسعي (بطريقة او بأخرى الى الحصول على تواقيع
اكبر عدد من المواطنين) و(القيام بعقد اجتماعات ومنتديات واصدار
وثائق) يترتب على ذلك، والمصدر دائما لائحة الادعاء، تعريض
المملكة (لوسائل الاعلام ولتشبيهات لا تليق... بهذا البلد
واهله)، كما يترتب عليه حلول الثلاثة لانفسهم (التأثير على حكومة
البلاد وحملها على تحقيق مطالب واهداف ومصالح.. والتشكيك بنهج
ولي الامر) و(تشكيل جماعات ضغط على الدولة وحكومتها) و(التدليس
على الناس بهدف التشويش على آرائهم) و(التشكيك في مبادئنا). واذا
استثنينا تهمة نابية اندست بلا اي مقدمات في عريضة الاتهام
وكأنها آتية من نص آخر (اثارة الفتن وتبرير العنف والارهاب)، اذا
استثنينا هذه التهمة النابية واعتبرناها نافلة وصوتية، فان كل ما
ورد في العريضة الاتهام يمكن بقليل من الترتيب ان يغدو تعريفا
للديموقراطية: اصدار بيانات، وجمع تواقيع، والسعي الى التأثير
على حكومة البلاد وحملها على تحقيق مطالب (وتشكيل جماعات ضغط
والتشكيك بنهج الدولة والمطالبة باستقلالية القضاء...).
كل
هذا بالحرف وبلا مواربة هو الوصف البسيط لأي ممارسة سياسية،
وعليه فإن المتهمة الكبرى هي السياسة والمتهمة الكبرى هي
الديموقراطية، وما بدا جناية هنا هو ببساطة ما يعتبره الناس في
المقلب الآخر من الدنيا سياسة. نفهم ان نشر فكرة اي فكرة بين
الناس وبأي وسائل كانت امرا ممنوعا، كما نفهم ان محاولة التأثير
على الحكومة ممنوعة ايضا. فهي حرة من اي ضغط وليس من حق اي فرد
او جماعة ان يعترض على نهجها، ناهيك بالطبع عن التشكيك في اسس
السلطة والنظام. ومن الواضح ان اي رقابة او ضغط او اعتراض او
محاسبة ليست من حق احد على الحكومة او السلطة. ومن الواضح ان
إقلاق حرية الحكومة او تعريضها لأي ضغط هو الجناية،
فالسياسة ليست سوى الممارسة الحرة للسلطة بلا حسيب او رقيب.
من
هنا يمكن ان نجد جناية حيث لا توجد جناية وان نحاكم على امور هي
في مكان آخر طبيعية وسائدة ويومية. يحسب علي الدميني ورفاقه انهم
لم يفعلوا شيئا، وتحسب الحكومة انهم فعلوا كل شيء. لقد سألوا حيث
لا ينبغي السؤال، وضغطوا حيث لا ينبغي الضغط، واعترضوا حيث لا
يجب الاعتراض. اذا اقر الثلاثة على انفسهم بكل التهم واصروا مع
ذلك على انهم ابرياء وانهم لم يذنبوا فان هذا يحير الحاكم
والقاضي فقط اللذين يدافعان عن حريتهما في ان يحكما بلا سؤال من
احد. سيحتار القاضي ولائحة الاتهام تندّ عن حيرته، اذ خانته
اللغة فجمع في اللائحة بين فقه وفقه. هناك لغة اوتوقراطية (ولي
الامر)، (المبادئ الشرعية) وهناك لغة جارية (استقلال القضاء،
التأثير على الحكومة، تشكيل مجموعات ضغط)، واللغتان تتساندان في
الواقع لانتاج فقه لا يشبه اي فقه آخر ولا فحوى له سوى اطلاق يد
السلطة. إذ لا نعلم ان ثمة اساسا قديما او حديثا لتهمة من نوع
التأثير على الحكومة او تشكيل مجموعات ضغط، فتبعا لذلك يحرم اي
رأي واي سؤال واي نصيحة واي تعبير من حيث المبدأ والشكل، وبصرف
النظر عن الغاية والفحوى، والأرجح ان فقها كهذا لا يناسب اي فكرة
قديمة او حديثة عن الدولة.
العفو الذي اصدره ولي العهد السعودي عن مسلحي العصابات لم يطل
الدميني ورفاقه، وإذا فاجأ هذا كثيرين ووجدوا فيه مفارقة عجيبة،
فانه لا ينبغي ان يفاجئ احدا. حين تكون السلطة مجرد قهر وقوة
فانها لا تخضع الا للعبة القوة، تعفو عمن يثبتون قدرة على
النزاع، ولا تعفو عمن لا يثبتون قدرة. هذا منطق قد يحرض على
الخروج المسلح، لكن السلطة لا تهتم. انها تعامل الديموقراطيين
كما لو كانوا مسلحين واحيانا أسوأ وكأنها تحاسبهم على سلميتهم.
تزن الكلام بأسوأ مما تزن السلاح، تحترم المسلح اكثر مما تحترم
المعارض. فالواضح ان للخارج والمتمرد مكانا في سجال السلطة وربما
شرعية ليست لصاحب الرأي او المحتج السلمي.
لعل
المفارقة هي ان الاصلاح هو تقريبا شعار الانظمة بعد افغانستان
والعراق، لكن افتعال الموضوع وفوقيته وفقدان الاستعداد له وطرحه
بلا مقدمات او اسس جعلته يدخل في سلسلة من المفارقات التي تقارب
التهريج. دعوى الاصلاح من فوق حذرة وخائفة وقابلة للانقلاب الى
ضدها. تخبط في تناقضات بلا حصر متربصة بقلق بأي دعوى للاصلاح من
تحت، غالبا تتصادم الدعويان، ويسعى الاصلاح من فوق لقطع الطريق
بشراسة على الاصلاح من تحت. انها لعبة خوف مثلثة. لكن اذا كانت
الدعوى من فوق مظهر افلاس فهناك جاهزية لاتهام الدعوى من تحت
بأنها استجابة اميركية، وبالتالي فهي خيانة، ويوجد بالطبع بين
خريجي الاحزاب اليسارية والقومية من يقدم الاساس النظري لهذا.
سيعتبر المبدأ نفسه اجنبيا ومنافيا لطبيعتنا. هكذا ومع دعوى
الاصلاح يجري (تحذير) الاصلاحيين بسنوات مديدة من السجن، ولا
يحظى الدميني ورفاقه بالعفو الذي ينتظر المسلحين المتمردين.
هل
نقدر على ان نضع عارف دليلة ورفاقه خارج هذا التحليل. أليست
سنوات السجن الطويلة هي ايضا عقاب على محاولة تأثير او ضغط او
اعتراض فحسب، وفي المحصلة هي عقاب على مبدأ الكلام والرأي
نفسيهما. لكن النظام الذي ليس اوتوقراطيا ولا يعتقد نفسه مفوضا
من قبل الله، ولا يحاسب على التشكيك في ولي الامر، ويعتبر نفسه
منبثقا من الشعب، لا يجد حجة كافية لتدبير كهذا. وسيبدو في ذلك
مبالغا ومتسرعا حتى بالنسبة لحكم الحزب القائد. فحتى في انظمة
كهذه ثمة مراحل وتطورات. لا يمكن في بعض المراحل منع ظهور
المعارضين بأي وسيلة بعد. فكل الظواهر تدل على هذا. ان ظلما
واضحا ومجانيا يجعل صعبا جدا ايقاف الموجة.
لا
أزال كمشتغل في الثقافة أعتبر المعارضة واجبا وأثمّن بخاصة
الاعتراض السلمي. إذا كان من المخجل ترك عارف دليلة يموت في
السجن من دون أي مساندة، فإن شجاعة هؤلاء المثقفين السوريين برغم
كل المحاذير شرف للثقافة ولنا.
عن
جريدة السفير اللبنانية
|