مطالب ووعود لم تتحقق

الحركة الإصلاحية في السعودية

(2-2)

 الثورة اليمنية وتداعياتها في السعودية

في 19 أيلول (سبتمبر) 1962 توفي أمام اليمن أحمد فتولى الحكم ابنه وولي عهده الأمير محمد البدر، وفي 26 من الشهر ذاته قامت الثورة في اليمن، حيث استغلت مجموعة من الضباط المناوئين للحكم الملكي برئاسة عبداللّه السلال فرصة تغير الإمام فأطاحت بالحكومة واستولت على السلطة. حصل النظام الجمهوري الجديد على تأييد فوري من مصر، وعند ابتداء شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1962 كانت 26 دولة قد اعترفت بالجمهورية العربية اليمنية.

قررت العائلة السعودية الحاكمة رص صفوفها لمواجهة الخطر القادم من اليمن، وكان غالبية الأمراء يميلون إلى حرمان الملك سعود من أي دور فعال في السياسة بسب صلاته مع الإصلاحيين و(الأمراء الأحرار). كما أن واشنطن كانت تؤثر فيصل، لأنها لم تنس تصريحات سعود وأعماله ذات الطابع القومي في المرحلة الأولى لتسلمه السلطة. وإزاء ضغط الأمراء وعلماء الدين اضطر الملك سعود في 25 (أكتوبر) 1962م إلى تعيين فيصل رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية مرة أخرى.

 

خلع سعود ومبايعة فيصل ملكا

 

بعد أن أعلنت حكومة فيصل الأحكام العرفية في الأول من كانون الثاني (يناير) 1963، شرعت بالتنكيل بالمعارضة، فاعتقلت الشخصيات ذات الميول الإصلاحية، بالإضافة إلى إلقاء القبض على عدد من الضباط المظليين بتهمة التآمر ضد نظام الحكم؛ وفي نفس الوقت عمدت جبهة التحرير الوطني الى تصعيد خطابها ونشاطها في الخارج. وفي خريف 1962م قصد سعود أوروبا للعلاج، فأخذ فيصل يعمل بنشاط لأحكام سيطرته على السلطة، فعيّن أخاه غير الشقيق عبداللّه قائداً للحرس الوطني وأخاً آخر حاكماً للرياض. وحين عاد سعود إلى الرياض في 27/4/1963، وجد نفسه في عزلة كبيرة وبلا صلاحيات ذات قيمة؛ وفي وقت لاحق ـ ونظراً لرفضه أن يكون ملكاً بالإسم، طالبه 39 من إخوته بتسليم فيصل السلطة الفعلية، على أن يظل ملكاً بروتوكولياً، ولكن رفض وغادر الملك سعود البلاد احتجاجاً.

إثر ذلك عزل فيصل كل أبناء سعود من المناصب الحكومية الهامة، وعين محلهم أخوته الثلاثة خالد وفهد وسلطان، وعمه الأمير مساعد بن عبدالرحمن الذي كان من خلصائه؛ وبعد ذلك أبعد ولي العهد عن العاصمة جزءاً كبيراً من الحرس الملكي الذي كان مؤلفاً من ثلاث كتائب مزودة بالدبابات والمدافع الحديثة والتي تدرب غالبية ضباطها في الولايات المتحدة (نقلت كتيبتان إحدهما للمشاة وأخرى مدرعة إلى الحدود السعودية اليمنية في الجنوب، وتم دمجهما في الجيش النظامي). كان الحرس الملكي عماد قوة الملك سعود، وأكثرهم ولاءً له، وكانوا يتقاضون رواتب عالية ويحصلون على دور وقطع أراضي وسلف حكومية للبناء، ولكن الحرس الملكي أُضعف بهذه الخطوة. لذا حين أراد سعود العودة، رفض فيصل إلا بشرط أن لا يتدخل في إدراة السلطة، فاضطر إلى الموافقة وعاد إلى السعودية في 13 أيلول (سبتمبر) 1963م·

في 22 مارس 1964م قام سعود بمحاولة يائسة لاستعادة السيطرة على الدولة، فطالب بوضع السلطة التنفيذية بكاملها تحت إشرافه؛ رفض فيصل الطلب وحشد الحرس الوطني لمؤازرته. وفي 25 مارس نصح مفتي الديار السعودية الملك سعود بالموافقة على مطالب ولي العهد، فرفض الملك أملاً في الحصول على دعم وحدات الحرس الملكي المتبقية تحت أمرته، وحينذاك أصدر فيصل أمراً إلى الحرس الوطني بتطويق القصر، وتمّت استمالة رئيس الحرس الملكي الذي أمر قواته بالإستسلام. وفي 29 مارس أصدر العلماء فتوى بزعامة محمد بن ابراهيم آل الشيخ، حول تسليم السلطة بأكملها لفيصل على أن يبقى سعود ملكاً بالاسم فقط؛ وإثر هذه الفتوى أصدر مجلس الوزراء سلسلة من القرارات في 28-30 مارس تقضي بإلغاء سيطرة الملك على الحرس الملكي وحرسه الخاص، وتسليم التشكيل الأول لوزارة الدفاع والثاني لوزارة الداخلية. كما ألغت تلك القرارات البلاط الملكي وقلصت المخصصات السنوية للملك الى النصف، فجعلها 138 مليون ريال سعودي.

لقد كانت إحداث آذار (مارس) عام 1964م تكراراً لانقلاب عام 1958م، مع فارق واحد وهو أن سعود حاول في هذه المرة إبداء نوع من المقاومة ولكنه أخفق. وبدأ فيصل في صيف 1964م يمهد للإطاحة باخية غير الشقيق عن العرش نهائياً. وفي 24 تشرين الأول (أكتوبر) غادر فيصل جدة متوجهاً إلى الرياض، والتقى في الطريق بزعماء البدو، كما اجتمع الأمراء وشيوخ القبائل وعلماء الدين في العاصمة، حيث عرضوا على سعود التنازل عن العرش والكف عن ممارسة النشاط السياسي. وفي 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1964م اجتمع علماء الدين في منزل مفتي الديار السعودية محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ثم عقدوا اجتماعاً آخر مع الأمراء في فندق (صحارى) بالرياض، حيث بلغ عدد المشاركين في الإجتماعين ـ كما يذكر دي غوري ـ زهاء مائة أمير و 65 عالماً، أي كل الفئة العليا من الهرم السياسي الديني في السعودية.

وفي 2 نوفمبر 1964، صادق مجلس الوزراء على قرارين: فتوى العلماء بمبايعة فيصل ملكاً، ورسالة وقعها جميع أفراد الأسرة المالكة تبايع فيصل ملكاً وتدين له بالولاء؛ كما بايع الملك الجديد أعضاء مجلس الشورى وممثلو أهم المحافظات؛ وتوجه أعضاء الحكومة برئاسة خالد إلى سعود لإعلامه بالقرار الذي رفضه. وفي 4 تشرين الثاني (نوفمبر) اقسم الحرس الوطني يمين الولاء لفيصل، ولكن سعود ظل متردداً في قبول ما حدث آملاً في حدوث معجزة، فهدده فيصل بحرمانه من أملاكه ووضعه تحت الإقامة الجبرية إذا استمر متعنتاً. حينذاك وقع سعود تنازله عن العرش، وفي كانون الثاني (يناير) 1965م غادر سعود البلاد، بعد أن أدى يمين الولاء لأخيه. وفي آذار (مارس) 1965م عين فيصل أخاه غير الشقيق الأمير خالد ولياً للعهد.

وبهذا انتهت مرحلة الصراع الظاهرة على السلطة بين آل سعود والتي استمرت ست سنوات. وفي العام الأول لتوليه الحكم جمع فيصل بين منصبي الملك ورئيس الوزراء، وتولى السلطة التنفيذية الفعلية وكان يقوم بتعيين الوزراء وإعفائهم ويقبل استقالته، وصار جميع الوزراء خاضعين مباشرة للملك الذي غدت لديه عملياً سلطة كبيرة مماثلة لسلطة والده عبدالعزيز.

 

المعارضة في الستينات ومطلع السبعينات

 

أدت ثورة اليمن والمجابهة المصرية السعودية إلى تصاعد مؤقت في نشاط مجموعة الأمير طلال. فقد أعلن في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1962 عن تشكيل جبهة التحرير العربية ونشر برنامجها؛ وذكر طلال أن التنظيم الجديد سيناضل من أجل إقامة نظام ديمقراطي في السعودية وإلغاء الرق هناك والعمل في سبيل إعادة النظر في اتفاقيات الامتيازات النفطية بغية حماية مصالح البلد، وإنشاء شركة وطنية لاستخراج النفط، والكفاح في سبيل الوحدة العربية وضد الأحلاف الإمبريالية والقواعد العسكرية. وقد راعى الأمير فيصل الكثير من مطالب طلال وأدرجها في بيانه الحكومي لاحتواء المعارضة، دون أن يفعل ذلك.

في مطلع الستينات وضعت الصيغة التنظيمية لمجموعة معارضة أخرى وهي اتحاد أبناء الجزيرة العربية (اتحاد شعب الجزيرة العربية فيما بعد)، وترأسها ناصر السعيد، الزعيم النقابي السابق في أرامكو. أعلنت المنظمة أنها تمثل جميع فصائل الكادحين، بمن فيها العمال والفلاحين والطلاب والموظفين والجنود والضباط والأطباء، ووزعت المنظمة في جدة والرياض ومكة منشورات مناهضة للحكم الملكي، ودعت في إذاعة موجهة من القاهرة إلى تصفية الحكم الملكي السعودي وتأسيس جمعية وطنية تمثل كل فئات الشعب. وبعد ثورة اليمن انتقلت قيادة الاتحاد من القاهرة إلى صنعاء حيث أنشأت قيادة عليا للعمل في السعودية، كان من بين أعضائها ناصر السعيد.

بديهي أن مجموعتي الأمير طلال وناصر السعيد كانتا متباينتين من حيث التركيب الاجتماعي والتطلعات السياسية وأساليب النضال، وكانتا تتبادلان التهجمات. أما جبهة التحرير الوطني فقد حاولت توحيد القوى المعارضة، وفي كانون الأول (ديسمبر) 1962م اندمجت بجبهة التحرير العربية، حيث صار اسم التنظيم الجديد جبهة التحرير الوطني العربية، وانتخب الأمير طلال بن عبدالعزيز أميناً عاماً لها، وشرعت بنشر مطالبها وأفكارها في صحيفة (الكفاح) اللبنانية تحت ركن (صوت الجبهة). وكان برنامجها يشمل المطالبة بالحكم الدستوري الديمقراطي وانتخاب هيئات السلطة وحرية الفكر والكلمة وحرية الاجتماع والتنظيم السياسي والنقابي، وحق العمال في الإضراب والتظاهر، وإجراء تغيير جذري في الجهاز الحكومي، ونشر التعليم ومكافحة الأمية وتعليم النساء أسوة بالرجال، وتصنيع البلد، وتوزيع الأراضي الأميرية على الفلاحين، وتطوير الصحة، وتوفير الخدمات الصحية لجميع المواطنين، وإقامة التعاونيات الزراعية، وتحسين وسائل المواصلات، وتعزيز الجيش وتجهيزه بأحدث الأسلحة، وإعادة النظر في اتفاقيات النفط لصالح العربية السعودية، وإنشاء شركة وطنية لاستخراج وتكرير النفط، والدفاع عن الوحدة العربية والنضال ضد الأحلاف الإمبريالية والقواعد العسكرية، واتباع سياسة الحياد الإيجابي والتعايش السلمي وإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية مع جميع البلدان.

بيد أن مجموعة طلال انسحبت في آب (أغسطس) 1963م من جبهة التحرير الوطني العربية، ومنذ ذلك الحين أخذت تسمى مجدداً جبهة التحرير الوطني؛ وقد تدهورت علاقات (الأمراء الأحرار) بالرئيس عبدالناصر وخاصة بعد أن أخذت إذاعة اليمن تدعو إلى (تصفية جميع أفراد الأسرة السعودية المالكة دون استثناء). وفي شباط (فبراير) 1964م عاد طلال إلى الرياض بعد أن كان أخوته الآخرون قد وصلوا إليها قبل شهر من ذلك. وبذا انفرط عقد (الأمراء الأحرار)، ولم يسمع شيء منذ ذلك الحين عن نشاطهم السياسي.

لم تتمكن المعارضة الديمقراطية الثورية المنظمة من إحراز نجاح داخل المملكة. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1962م اعتقل 40 من الضباط الشباب الذين خططوا للقيام بانقلاب؛ وفي شباط (فبراير) 1963م اكتشفت أجهزة الأمن السعودية مجموعة جديدة توحد الوطنيين فعمدت الى اعتقالهم.

 مظاهرات ومطالب

 شهد البلد اضطرابات عمالية في فترة 1962-1966؛ ففي عام 1962م توقف عمال المطابع المصريون في جدة عن العمل احتجاجاً على التهجمات الإعلامية السعودية ضد مصر؛ وفي عام 1963م أضرب السعوديون العاملون لدى أحد المقاولين في المنطقة الشرقية؛ وفي العام نفسه جرى إضراب في معمل للإسمنت؛ وأضرب عمال النفط في المنطقة المحايدة مطالبين بتقليص أسبوع العمل من 48 إلى 40 ساعة؛ وفي عام 1964م قاطع عمال أرامكو مطاعم الشركة وحوانيتها، ونظموا مظاهرة. وبالرغم من صدور مرسوم عام 1965م يحظر كل أنواع الاتحادات والروابط العمالية وحتى العقود الجماعية، فإن تسعمائة من عمال أرامكو برهنوا عام 1966م على وجود نوع من التنظيم لديهم، ورفعوا إلى مكتب الشكاوي التابع لمجلس الوزراء عريضة تتضمن مطالب اقتصادية. بيد أن كل هذه النشاطات لم تكن ذات طابع جماهيري، فحتى مطلع عام 1967م لم تكن هناك بوادر تدل على أن النظام السعودي قد تعرض لخطر جدي يذكر من قبل المعارضة السرية. وكانت السلطات السعودية تعلن بين الحين والآخر عن اعتقال أفراد بتهمة القيام (بنشاط هدام) أو (الانتماء إلى منظمات سرية معادية للنظام). ففي كانون الأول (ديسمبر) 1965م أعلنت وزارة الداخلية عن اعتقال 65 شخصاً بتهمة القيام بـ(نشاط هدام)، ووجهت لـ 34 شخصاً تهمة (الانتماء إلى منظمة سرية انحرفت عن الصراط المستقيم، وترمي إلى الإخلال بأمن البلاد وبعد أن سجل المتهمون إقراراً تحريرياً أعلنوا فيه أنهم مذنبون وطلبوا العفو، أطلق الملك سراحهم ولكن حظر عليهم مزاولة وظائف حكومية، وأبعد الأجانب منهم. وكانت هناك مجموعة ثانية تتألف من 13 شخصاً اتهموا بـ (الشيوعية) واتباع (المبادئ الهدامة) وحكم على 19 منهم بالحبس لمدد تتراوح بين 5 و 15 سنة.

في 9 كانون الثاني (يناير) 1967 أعلن عن إلقاء القبض على (مخربين مدربين)، واتهموا بتنظيم تفجيرات في مؤسسات حكومية عديدة منها وزارة الدفاع ومبنى البعثة العسكرية الأمريكية وقصور الأمراء والقاعدة العسكرية القريبة من حدود اليمن؛ وزعم أن المخربين ليسوا من المواطنين السعوديين، بل إنهم متسللون من جمهورية اليمن؛ وفي آذار (مارس) أعدم 17 منهم علناً في الرياض (بقطع رؤوسهم) وطرد من البلد ما يزيد على 600 يمنياً الى خارج الحدود. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1966م انتقل الملك السابق سعود من أوروبا إلى القاهرة، وسرعان ما غدا واضحاً أنه لم يفقد الأمل في استعادة عرشه بمساعدة الرئيس عبدالناصر؛ ومن سخريات القدر أن سعود كان من خصوم الرئيس المصري، وسبق أن اتهم بتنظيم مؤامرة لاغتياله. تحدث سعود في سلسلة مقابلات من إذاعة القاهرة واصفاً فيها فيصل بـ (عميل للإمبريالية) واتهمه بأنه (تحالف مع الاستعمار ضد أشقائه العرب). وقد عكست تصريحات سعود أمله في العودة إلى البلد (بأي ثمن)، وأثارت تكهنات بأنه يخطط لتنظيم غزو عسكري لاستعادة السلطة بمساعدة القبائل الموالية له عبر الحدود اليمنية.

في نيسان (أبريل) 1967م وصل سعود إلى صنعاء في زيارة استغرقت ثلاثة أيام، وقد رحب به عبداللّه السلال باعتباره (الملك الشرعي) للسعودية. ولكن بعد العدوان الإسرائيلي في حزيران (يونيو) 1967م، جرى تقارب مصري سعودي وتقرر وقف العمليات العسكرية في اليمن، وبذا توقفت حملة سعود وغادر إلى أوربا في أيلول (سبتمبر)، ولكنه عاد إلى مصر في تشرين الثاني (نوفمبر)، إلا أنه لا تتوفر معلومات عن نشاطه السياسي لحين وفاته في شباط (فبراير) 1969م.

إبان حرب حزيران جرت في رأس تنورة والظهران ومدن أخرى في المنطقة الشرقية مظاهرات معادية لإسرائيل وأمريكا، وهاجم المتظاهرون في الظهران القنصلية الأمريكية، جرى إثرها حملة اعتقالات، وتذكر بعض المصادر أن عدداً من المعتقلين قد قتلوا، كما طرد من السعودية مئات الفلسطينيين بتهمة التحريض. وفي أواخر حزيران (يونيو) نظم العمال في أرامكو إضراباً جزئياً استمر بضعة أيام.

شهدت سنة 1968م انحساراً وقتياً في المعارضة الداخلية والخارجية للملك فيصل، وبدا أن النظام قد استعاد استرخاؤه بعد هزيمة عبد الناصر، وسحب القوات المصرية من اليمن، حيث تخلت مصر عملياً عن دعم المعارضة داخل المملكة مقابل دعم مالي ومساعدات أخرى من السعودية، كانت في مسيس الحاجة إليها لبناء قواتها المسلحة. ومن جهة أخرى، أثارت سياسة التغييرات التدريجية والحذرة التي أجراها الملك فيصل استياء داخل الأسرة الحاكمة، سواء لدى أولئك الذين اعتبروا التغييرات مغالية في الليبرالية والديناميكية، أو الذين اعتبروها بطيئة للغاية وغير حاسمة؛ وكان لكل من وجهتي النظر هاتين أنصار بين الأمراء، مما أدى إلى احتكاكات مبعثها التنافس الشخصي.

عملت سراً في السعودية خلال الستينات ومطلع السبعينات بضع منظمات ديمقراطية ثورية هي جبهة التحرير الوطني السعودية واتحاد شعب الجزيرة العربية، بالإضافة إلى المجموعات الجديدة مثل (الحزب النجدي الثوري) الذي أعلن عن اعتزامه النضال ضد ما أسماه (الطغمة الرجعية الحاكمة)، والجبهة القومية الديمقراطية في العربية السعودية المكونة من بعثيين وناصريين سابقين؛ وكانت مراكز نشاط هذه القوى خارج المملكة، كما كان لها أعضاء نشطاء داخل البلد، وفي القوات المسلحة، التي كانت مستهدفة بشكل خاص لتكون أداة للتغيير.

 

المحاولات الانقلابية ما بين 1954 ـ 1977

 

عندما سعى الملك عبدالعزيز آل سعود، إلى إنشاء القوات المسلحة كان الهدف الظاهري التصدي للخطر المتزايد الناتج عن الأعداء الإقليميين ـ الهاشميين بشكل خاص في العراق والأردن ـ وكان يسعى إلى حماية سلطته الشخصية من الأمراء المنافسين له في الداخل، وقد زودت البلاد ببنية عسكرية جيدة، تم تدريبها على أيدي الأمريكان وبعثات عسكرية مصرية، إلا أن محاولة الانقلاب التي جرت في العام 1954 نبهت آل سعود لوجود مخاطر كثيرة من الأجهزة العسكرية، وكانت عمليات التطهير تتكرر، إلا أن بعض العناصر صمدت بوجه هذه العمليات، فاستمرت العمليات المعادية للملكية، ففي الفترة الممتدة من بين 1957 ـ 1959 تم توقيف الآلاف، بتهمة التخريب والتمرد، وازدادت أعداد الضباط السعوديين المعادين للولايات المتحدة الأمريكية والمؤيدة للأطروحات القومية وتحديداً المتعاطفين مع الثورة المصرية بقيادة جمال عبدالناصر، فبدأت تتنامى (حركة الضباط الأحرار)، حيث تظاهر في عام 1958 عدد من الضباط والجنود احتجاجاً على إنهاء البعثة العسكرية المصرية، وعودة القوات الأمريكية والمستشارين العسكريين الأمريكيين، وفي 2 و8 أكتوبر عام 1962، انضمت أربع مجموعات من القوات الجوية السعودية إلى مصر، وهي محملة بالأسلحة والذخائر، فلجأت السلطات السعودية إلى الطلب من واشنطن حراسة المجال الجوي السعودي، بعد عقاب جماعي للقوات المسلحة السعودية، ولكن وعلى نطاق أخطر وأعظم اكتشف حرس القصر الملكي في نوفمبر 1962، مؤامرة كانت تحاك ضد الملك من قبل مجموعة من الأمراء من العائلة الحاكمة، إلا أنهم فروا إلى مصر قبل توقيفهم.

ومرة أخرى، أنزل الملك سعود العقوبة على الأسطول الجوي كله، وأمر بنزع مخزون مدفعية الدبابات التابع للقصر الملكي؛ وبعد أن حسم الصراع على السلطة لصالح الملك فيصل، اتخذ الأخير إجراءات صارمة ضد القوى المعارضة وسعى إلى إسكات الناشطين السياسيين المتأثرين بالأيديولوجيات المزدهرة في المحيط العربي، فقام الملك فيصل بترويج خطابية الأصالة الإسلامية والأطروحات الوهابية، وأصبحت خلفية إصلاحات فيصل في تطوير النظام التعليمي والمؤسساتي في أجهزة الحكومة، تقوم على هذه الأطروحات الموغلة في التزمت الديني، وضمن بذلك امتثال المراجع الدينية، ووضع القومية كفكرة مناقضة للإسلام واحتضن جماعة الإخوان المسلمين المصرية، وفي نفس الوقت أقام الملك فيصل علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ونجحا سوياً في تصوير جميع الحركات الإصلاحية والقومية بأنها من فعل الشيوعية العالمية، إلا أن السعودية بقيت غير محصنة تجاه الانقلابات والثورات، ففي 5 أبريل 1969، وقبيل ساعة الصفر، استطاعت المخابرات المركزية الأمريكية من كشف مخطط لانقلاب كبير ومحكم، أعده عدد من الضباط السعوديين معظمهم من سلاح الطيران، من ضمنهم مدير إدارة الأكاديمية العسكرية الجوية في الظهران، وآمر قاعدة الظهران، ومناصرين في الرياض والقواعد العسكرية الأخرى، وكانت الخطة تقضي بالهجوم على الملك والأمراء النافذين، ثم إعلان قيام جمهورية الجزيرة العربية. وعلى أثر ذلك تم توقيف مئات الضباط كما شلّت حركة الطيران العسكري لأسابيع، وحتى عند عودة حركة الطيران، بقيت الطائرات العسكرية بدون ذخيرة لفترة غير قصيرة. كما اعتقل عدد من العاملين في أرامكو، وموظفي المصارف الذين لهم علاقة بتلك المحاولة، وأعدم العشرات، وفاق عدد من أدخلوا إلى السجون الألفين، ونشر في الصحافة العربية والمعارضة السعودية في الخارج أخبار عن حملات مداهمات واعتقالات وإعدامات وأنباء عن محاولات انقلابية أخرى في سبتمبر ونوفمبر عام 1969، وكذلك في مايو ويوليو عام 1970.

ولم تشهد القوات السعودية حركة تطوير وتحديث جدية إلا بعد إعلان بريطانيا انسحابها من الخليج ووفاة الزعيم العربي جمال عبدالناصر، وإن كانت عملية التحديث حذرة ومعتمدة على وجود قوات أخرى من باكستان والولايات المتحدة الأمريكة، إلا أن ذلك لم يحد من ظهور محاولات انقلابية أخرى، ففي صيف 1977، أذيع أن المسؤولين السعوديين اكتشفوا محاولة انقلابية في قاعدة تبوك الجوية، وفي هذه الحادثة تم الاعتماد على الاستخبارات العسكرية المصرية والأردنية، لقمع الانقلابيين، وتم توقيف كافة الطيارين باستثناء ثلاثة استطاعوا الهرب إلى العراق، ومرة أخرى لجأت السلطات السعودية بتحديد مدة الطيران العسكري بنصف ساعة فقط وبدون ذخيرة، وضاعفت الهبات والأجور لكبار الضباط، إلا أن الخشية من الانقلابات كانت حاضرة دائماً.

انحسرت المظاهر العلنية للمطالب الإصلاحية والانقلابية بسبب الفراغ الذي أحدثته وفاة الزعيم العربي جمال عبدالناصر عنصراً فصعد نجم الملك فيصل كزعيم عربي بدا مؤهلاً لملء فراغ الزعامة، خاصة بعد حرب 1973، وارتفاع مداخيل النفط آنئذ. لكن فيصل لم يعمّر طويلاً حيث جرى اغتياله في 25 مارس 1975 على يد ابن اخيه الأمير فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز. بعد كثير من التكهنات بشأن دوافع القاتل، أبلغت الحكومة مواطنيها أن الاغتيال كان (عملاً فردياً وتذكّرت غالبية السعوديين أخ القاتل، الأمير خالد الذي قاد في عام 1965 تظاهرة ضد فتح المحطة التلفزيونية أسفرت عن مقتله برصاص الشرطة السعودية. وفي الوقت الذي لم تقدم الحكومة تفسيراً لاغتيال الملك، طلع السعوديون بتأويلاتهم الخاصة، حيث ربط البعض الأمر بتنحية سعود عن الحكم خاصة وأن القاتل كان قد تزوج حديثاً من إحدى بنات سعود، بينما راجت شائعات عما يحاك من (مؤامرات أميركية وصهيونية) ضد المسلمين، فصور اغتياله في المخيِّلة الشعبية على أنه انتقام غربي من المقاطعة النفطية عام 1973م·

 

عهد الملك خالد 1975-1982

 

تُوّج خالد بن عبدالعزيز (وُلد عام 1912) ملكاً في غضون ثلاثة أيام بعد موت فيصل، وسُمي أخوه غير الشقيق فهد ولياً للعهد. وخلال السنوات الثماني من عهد خالد (1975 ـ 1982) بدأ التناقض يتبدى بين خطابية فيصل الإسلامية من جهة والرخاء والنزعة المادية المتعاظمة في المجتمع من الجهة الثانية. ولعل عهد الملك خالد كان سيخلو من الأحداث المثيرة لولا عوامل خارجية عدة كانت لها تداعياتها في العربية السعودية. أولاً، إن الثورة الإيرانية مارست تأثيرها في التطورات السياسية الداخلية وألهمت قوى إسلامية في العديد من البلدان العربية ومنها العربية السعودية. ثانياً، عمل الغزو السوفياتي لأفغانستان على تهويل المخاوف السعودية من الشيوعية وتوفير المبرِّر وراء الشراكة المتينة مع الولايات المتحدة واستطاعت الرياض ان تحتوي المتطرفين الاسلاميين وتوجههم إلى أفغانستان. وثالثاً، وضعت الحرب الإيرانية - العراقية في الثمانينيات نزاعاً إقليمياً على مقربة من الحدود السعودية.

(1) حركة جيهمان العتيبي: خلال موسم الحج في 20 نوفمبر 1979، كان حصار جهيمان بن محمد العتيبي ومحمد بن عبد الله القحطاني مع العديد من الأتباع السعوديين وغير السعوديين في الحرم المكي، المظهرَ الأسطع لما كان يعتمل من توتر في المجتمع السعودي. كان قائد العملية جهيمان العتيبي واعظاً نشطاً غامر بإبداء آرائه حول الحاكم الإسلامي العادل والعلاقات مع (القوى الكافرة) والنزعة المادية والفساد والعلاقة بين العلماء والسلطة، وطالب بعزل آل سعود من الحكم. عمدت الحكومة إلى استنفار العلماء، وأصدرت إدارة البحوث العلمية والإفتاء فتوى تدعم الفئة الحاكمة وتجيز التدخل العسكري في الحرم المقدَّس. وأُنهي الحصار بعد قتل (الزعيم الروحي للحركة) وأسر قائد الحركة العسكري ومنظّرها مع 170 من الأتباع. تطلَّب سحقُ التمرّد أسبوعين، والاستعانة بقوات خاصة أردنية وفرنسية ومستشارين أمريكيين، وأسفر عن سقوط العديد من القتلى؛ وفي 3 ديسمبر 1979 خرج آخر المتمردين من المسجد الحرام.

رسالة المتمردين السياسية طغى عليها إعلانهم أن زعيم الحركة الروحي محمد القحطاني هو (المهدي المنتظَر)، الذي كان مفهوماً خلافياً في الإسلام السني، واستثمرت الحكومة هذا الخلاف للنيل من المتمردين. وشرع كبار العلماء في إجراء مناظرة لاهوتية حول صفات المهدي الحقيقي طامسين بذلك المعارضة السياسية التي كانت هي أساس التمرد؛ وخلص العلماء إلى أن القحطاني لا يمكن أن يكون المهدي المنتظر حقاً مبرِّرين بذلك إخماد الحركة بوحشية داخل المسجد، وهو حرم مقدس مُنع سفك الدماء فيه حتى قبل ظهور الإسلام. لكنَّ الفئة الحاكمة والسعوديين الاعتياديين على السواء، أدركوا أن التمرد لم يكن حول (مهدي) مزيَّف أو حقيقي، بل كان حول تطور أسفر عن نتائج اجتماعية متناقضة، وتوترات لم تكن تتوقعها حكومة رفعت لواء التحديث دون توفير أرضية جديدة للشرعية. فلقد كان حصار المسجد جزءاً لا ينفصل من نتائج التحديث المادي إبان السبعينيات، وهو كان يقظة سياسية استندت إلى خطابية دينية أصبحت أكثر تمفصلاً برعاية مراكز العلوم الدينية، وفي ظل التربية والتعليم. وكان جهيمان يتميز عن فيصل الدويش، المتمرد الإخواني في عام 1927ـ1930، بتربيته الدينية وعلمه اللاهوتي اللذين تطورا خلال فترة مديدة من الدراسة في جامعة إسلامية فتحتها الدولة السعودية.

(2) تحرك الشيعة :التوترات الاجتماعية نفسها التي أدت إلى حصار المسجد أخذت تتبدى في المنطقة الشرقية حيث يعيش غالبية الشيعة السعوديين الذين يعمل معظمهم في حقول النفط ولكنهم كانوا يواجهون أشكالاً مختلفة من التمييز الطائفي، وحقيقة أن المذهب الوهابي وصم الشيعة بالزندقة، لم تفعل سوى مفاقمة التمييز ضدهم كأقلية منعزلة. وظهر تناقض آخر في السبعينيات، إذ كانت الصناعة النفطية تتركز في منطقة الشيعة حيث يساهمون بالقسم الأعظم من الأيدي العاملة شبه الماهرة وغير الماهرة؛ ولم يُترجَم هذا إلى فرص اقتصادية وتعليمية واجتماعية أفضل للسكان؛ فخارج معسكرات أرامكو لم تجنِ غالبية الشيعة فائدة من التوسع في الخدمات الصحية والاجتماعية، وهم كانوا ممنوعين من مهن معينة مثل الجيش ومؤسسات التعليم، كما كانوا ممنوعين من إقامة مجالس العزاء بمناسبة عاشوراء في العلن، ومن بناء مساجدهم الخاصة، وأصدر العلماء الوهابيون عدة فتاوى تكفر الشيعة، ولم تفعل الدولة شيئاً يُذكَر لإسكات الآراء الدينية المتطرفة.

حوَّل نجاح الثورة الإيرانية في عام 1979 العديدَ من الناشطين الشيعة إلى متمردين إسلاميين؛ وفي عام 1979، نزل الشيعة إلى الشوارع بمناسبة عاشوراء متظاهرين ضد الحكومة وسياساتها فأرسلت اليهم 20 ألفاً من أفراد الحرس الوطني لإخماد مظاهراتهم التي هي تعبير عن الاستياء من وضعهم كمواطنين من الدرجة الثانية. في المصادمات مع الحرس الوطني سقط العشرات قتلى وجرح المئات كما اعتقل نحو ألف وثلاثمائة شخص.. ويتذكر الشيعة هذا الحدث بوصفه (انتفاضة المنطقة الشرقية وبدأت (منظمة الثورة الإسلامية) الشيعية السرية التي تمثل الطائفة في المنطقة الشرقية، تبرز بوصفها المتنفَّس السياسي للطائفة بعد تلك الأحداث العفوية. وكان أعضاء المنظمة من طلاب (جامعة البترول والمعادن) وعمالاً في الحقول النفطية، وبعد سلسلة من المواجهات الدموية انتقلت قيادة المنظمة إلى المنفى، ونشطوا في إصدار العديد من المجلات المعارضة.

بعد اضطرابات 1979-1980 اعتمدت الحكومة السعودية معالجة برغماتية ووعدت بسلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية. واعترف المسؤولون الذين زاروا المنطقة بعد هذه الأحداث مباشرة، علناً بما تعانيه الطائفة من حرمان اجتماعي واقتصادي، واعدين بتحسين التعليم والخدمات الصحية والبنى التحتية الاقتصادية للمدن الشيعية. ولكن تلك الإجراءات المحدودة في أهدافها أخفقت في تهدئة الأوضاع، ولم تتحقق مصالحة وإن كانت هشة إلا في عام 1993، وبضغط من تداعيات حرب الخليج عام 1991 وحصار العراق.

 

عهد الملك فهد: التقشف والمعارضة السلفية

 

ورث ولي العهد فهد (وُلد عام 1921) العرش بعد وفاة خالد؛ كان الانتقال سلساً لأن فهد كان أصلاً تولى ممارسة سلطات واسعة خلال السنوات الأخيرة من حكم خالد، وقد أحكم الملك مع أخوته الأشقاء الستة سيطرتهم على المناصب الحكومية الحساسة وخاصة الدفاع والداخلية، فيما أصبح أخوهم غير الشقيق عبد الله، قائد الحرس الوطني، وليَّاً للعهد والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء؛ وفي عام 1986، خلع الملك فهد على نفسه لقباً جديداً هو (خادم الحرمين).

تزامنت سنوات فهد الأولى على العرش مع هبوط حاد في أسعار النفط التي بلغت أدنى مستوياتها في عام 1986، إذ انخفض سعر النفط من 32 دولاراً للبرميل إلى 15 دولاراً في أوائل الثمانينات متسبباً في تناقص عائدات النفط السعودية بنسبة تزيد على 30%. وفي غضون ستة أشهر، بين يناير ويوليو 1986، انخفضت أسعار النفط من 26 دولاراً للبرميل إلى 8 دولارات للبرميل، الأمر الذي جعل الناتج السعودي في وضع لا يحسد عليه. للمقارنة، فإن ذلك الناتج بلغ عام 1982 مستوى لا سابق له زاد على 400 بليون ريال سعودي، بينما انخفض في عام 1986 إلى 271 بليوناً.

لم يعد بالإمكان اعتبار الرخاء الذي عُرف في عهدي فيصل وخالد من المسلَّمات في وقت كانت الحكومة السعودية تحاول التكيف مع هبوط أسعار النفط الذي أماط اللثام عن ضعف الاقتصاد القائم على سلعة واحدة، وكثيراً ما كانت سنوات فهد الأولى على العرش توصف بأنها عهد التقشف، على النقيض من سنوات الرخاء في عهدي فيصل وخالد. اعتمدت الحكومة الإبطاء بوتيرة في تحديث البنية التحتية للبلاد وصرفت النظر عن كثير من المشاريع التنموية الهامة، نتيجة عجوزات متعاقبة في الميزانية.

 

المعارضة السلفية: بعد حرب تحرير الكويت في العام 1991، واجهت حكومة الرياض نشوء حركة إسلاميّة سلفيّة تدعو إلى تغيير شامل. وظهر الخطر الديني على مستويين مختلفين: أولاً بين رجال الدين أنفسهم؛ وثانياً بين رجال الدين وآل سعود. أبدى عدد من الزعماء الدينيّين البارزين معارضتهم حيال مستقبل المملكة السياسي، كما أن حالة أجهزة الدفاع فيها أظهرت أن كافة استثمارات الحكومة وجهودها في هذا الصدد قد ذهبت سدى؛ في الوقت نفسه، حاول بعض رجال الدين الأصغر سنّاً إعادة النظر في تعاليم الزعماء المتقدّمين فعارضوها، واعتبروا هؤلاء الشيوخ منصاعين لآل سعود الذين (أفسدوهم).

يمكن إرجاع مصادر التحدّي السلفي إلى خطابَي مطالب (عريضتين) وُجِّها إلى الملك فهد من قبل مجموعة من العلماء والمفكرين في مايو 1992؛ إذ دعا أول خطاب إلى إنشاء مجلس مستقلْ للشورى، يكون من صلاحيّاته البتُّ في الشؤون السياسية الداخليّة والخارجية، بهدف تحقيق المساواة بين كافة السعوديين أمام القانون بغضّ النظر عن منزلتهم ووضعهم، وإعادة توزيع المال العام، ومحاسبة سائر المسؤولين، والتزام أكبر بالقيم الإسلامية. أمّا العريضة الثانية (وقعها 107 شخصاً) فقد توسعت في هذه المطالب، لافتَة النظر إلى سوء الإدارة العامة والفساد. تميّزت هذه العريضة (وتسمى مذكرة النصيحة) عن الأولى بجرأتها الأكبر، وقدّمت توصيات مفصّلة، كما ركّزت توصية أخرى على الحاجة إلى القضاء على التأثيرات الحضاريّة الغربيّة (مثل الحدّ من الحصول على هوائيّات عبر الأقمار الصناعية)، والحدّ من الإتّصال بالغرب (خاصة في ما يتعلّق بشراء الأسلحة)، وتعزيز العلاقات مع البلاد المسلمة المماثلة.

كان العديد من الموقِّعين على هذا الخطاب رجال دين- أئمّة، وخطباء، وقضاة ومحاميين شرعيين ومعلّمين، معظمهم من نجد والرياض، مهد الحركة الوهابية والقاعدة التقليديّة لآل سعود. من أبرز الخطباء، كان سلمان العودة وسفر الحوالي، اللذان شكّلا تحدّياً مباشراً للسلطات الحكومية. كان جوهر الخطابين المطالبة بتغيير البنية السياسية في السعودية، ونقل مقدار هام من السلطة من عائلة آل سعود الحاكمة إلى نخبة معيّنة من رجال الدين المتزمّتين، وكان معظم رجال الدين هؤلاء من الشباب وقد عارضوا أيضاً العلماء المتقدّمين في المملكة إذ اعتبروا هؤلاء من الموالين لآل سعود. لكن المؤسسة الرسمية ممثلة في هيئة كبار العلماء أدانت، كما كان متوقعاً، هاتين العريضتين بصفتهما مضلّلتين ومسبّبتين للشقاق، وقد رفض سبعة علماء فقط توقيع الرّد الرسمي، فدفعوا للاستقالة بسبب تراخيهم، وتمّ استبدالهم بدم جديد أكثر تحرّراً. واللافت للنظر هو أن مجلس الشورى الذي طال انتظاره قد افتتح أخيراً في أواخر ديسمبر 1993، كاستجابة حذرة من حكومة الرياض للضغط المتزايد للمشاركة السياسية، كما أن إصدار النظام الأساسي جاء فوقياً ومفروضا من الحكومة دون مناقشة أو حوار، وأخضع جميع السلطات للملك.

واجه آل سعود التحدي الإسلامي بمزيج من التردّد والاسترضاء؛ فقد كان من شيم الملك فهد اجتناب المواجهة؛ ولكن لما بدى أن الحركة الإحتجاجية قد تتطور، ضربت أجهزة الأمن ضربتها وقامت باعتقال عدد من المشايخ وضيقت هامش التجمعات والتعبير، وزادت من سيطرتها على المراكز الدينية والجوامع، إضافة الى المراقبة المستمرة لأداء المشايخ وميولهم.

المعارضة المدنيّة - السلفية: في 3 مايو 1993، قام ستة أشخاص بتحدّي آل سعود إذ أعلنوا عن إنشاء (لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعيَّة اقتضت مهمّتهم (النضال من أجل القضاء على الظلم وإعادة إحياء الحقوق الشرعية، والسهر على حفظ حقّ الشعب بالتعبير عن آرائه بحرية والعيش بشكل شريف وكريم في بيئة يسودها العدل والمساواة). أمّا سبب تحرّكهم فهو، كما أعلنوا، رغبتهم (بوضع حدّ للانحلال الاجتماعي). لكن على الرغم من لهجتهم المعتدلة بشكل عام، عمدت حكومة الرياض إلى صرف الستة من مناصبهم الرسميّة وتوقيفهم وإخضاعهم لاستجوابات وتحقيقات صارمة. بعد مرور بضعة أشهر، غادر الناطق الرسمي باسم اللجنة الدكتور محمد المسعري خلسة إلى اليمن، ومنها إلى لندن حيث طلب حقّ اللجوء السياسي، وقد باءت كافة مساعي الملك فهد لإقناع رئيس مجلس الوزراء البريطاني في حينه جون ميجر، بطرده من بريطانيا، بالفشل. تميزت البلاغات الرسميّة الصادرة عن اللجنة في عهد زعامته بالاحتراف، فقد كانت ترسل المعلومات عن القمع الممارَس في المملكة بالفاكس إلى آلاف الأشخاص في مختلف أنحاء العالم، وحتى داخل المملكة؛ كما أن تلك البلاغات كانت تُرسَل عبر الإنترنت، أي أنه كان يطّلع عليها أيّ شخص مهتم بالشأن الداخلي في السعودية. تزعمت اللجنة معارضة نظام العائلة الحاكمة، وبدا أن لها شبكة فعّالة من المناصرين داخل المملكة السعوديّة.

يمكن تفسير نشأة المعارضة السلفية بأنها محصلة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية وعناصر التحديث المعتمدة، والتي وسعت قاعدة النزاعات في المجتمع السعودي، كما عمقت التناقضات بين النظام والطبقات والفئات الاجتماعية الطامحة إلى اصلاحات أعمق، والاستيلاء على السلطة في خاتمة المطاف، أو الشراكة فيها. لقد اختل التوازن الاجتماعي القديم في العربية السعودية، ولكن لم يقم توازن جديد رغم كل ما يبتدع من مرتكزات واجراءات جزئية، وهذه حالة مهزوزة ومشحونة بانفجارات اجتماعية قد تتخذ اشكالا غير متوقعة على الاطلاق.

عودة الصدام بين الدين والدولة: جولات الصراع السابقة بين الأصولية الوهابية والدولة السعودية حكمتها جملة من التسويات الهشة والوعود التي لم تنفذ، أما الجولة الجديدة فتبدو أكثر شراسة من سابقاتها ويقودها رجال متعلمون وسياسيون مع تراجع ملحوظة للدعم الامريكي لسلطة آل سعود. مع ان علماء الدين كانوا بوجه العموم مؤيدين للنظام السعودي، إلا ان علاقتهم به لم تتسم دوماً بالانسجام الكامل. كل ما حصل ويحصل في المملكة السعودية منذ إنشائها انما كان من قبيل الاستجابة والتوفيقية بين الواقع والمتغيرات، والحفاظ على السلطة بيد آل سعود دون منازع. فبعد كل هزة او خلاف مع القوى الأصولية المتزمتة، تعمد الحكومة السعودية لاثبات تعهدها بتنفيذ احكام الشريعة الإسلامية وفقاً للمذهب الوهابي، وتحاصر المجتمع والأفراد بالمزيد من القيود، وتعيد الاعتبار للقوى الإسلامية المتطرفة من خلال حشد مؤيدي الحكم من علماء الدين، وفي نفس السياق تعد القوى السياسية الحداثية ـ دون أن تنفذ ـ بإجراء اصلاحات سياسية ومدنية.

إن نفور الحكومة السعودية من توسيع المشاركة السياسية والديمقراطية يأتي من الخوف أن تؤدي المشاركة السياسية والديمقراطية الدستورية إلى تجريد آل سعود من الانفراد بالسلطة، إلا أن عدم توسيع المشاركة السياسية سيزيد من نقمة الفئة الحداثية وقد يؤدي إلى فقدان السلطة السعودية للشرعية ويدفع بقوى التحديث والديمقراطية إلى مساندة التغيير بأي شكل، في ظل تراجع الدخل الفردي وتزايد البطالة، وتزايد الفوارق الطبقية، حيث ان مطالب التغيير اصبحت قاسماً مشتركاً لدى الجميع. كما أن الاستمرار في اتخاذ الوهابية مبداً مثالياً دون اجراء أي تغيير حقيقي في محتواها لملاءمة الواقع، قد اسهم في اضعاف شرعية نظـام الحك، وأدى إلى صدام متكرار بين الدين والدولة.