تعقيب على ورقة حمزة الحسن حول الفساد والحكم الصالح في السعودية

 علينا إعادة قراءة أسباب ظاهرة الفساد بمنهجية بديلة لا تخرجنا من دائرة القانون العام

الدكتور يوسف مكي*

 

إن الحديث عن أسباب الفساد ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار جملة من الحقائق، يأتي في مجملها الموقع التاريخي للنظام السياسي الذي تمارس تحت مظلته حالة الفساد، وطبيعة علاقاته المحلية والمحيطة والدولية، ومستوى النمو للهياكل الاجتماعية القائمة، والقوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة، ومستوى الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد، وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني فيه إلى جانب تأثير الموروث في صياغة العادات والتقاليد، وتأثيراتها على الأداء البيروقراطي في الدولة.

الفساد بشكل عام هو ظاهرة اجتماعية، لا تقتصر على بلد بعينه، لكن ما يجعله نسبي هو مستوى النمو السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلد ما مقارنة ببلد آخر، وطبيعة شكل الحكم. وبالقدر الذي تسود فيه الشفافية وتتحقق المشاركة في صناعة القرار، ويوجد فيه نظام محاسبي صارم يستند فيه إلى علاقات تعاقدية تقوم بين الحاكم والمحكوم، بالقدر الذي تتراجع فيه حالات الفساد وتتقهقر. ولا شك في أن استفحال ظاهرة الفساد في البلدان العربية هو من المعوقات الرئيسية للنهضة وتحقيق التقدم، وقد شكل، بالتأكيد، جدارا عازلا يحول دون قيام الحكم الصالح.

من هنا تأتي أهمية الورقة التي قدمها الزميل الباحث الأستاذ حمزة الحسن حول الفساد في المملكة العربية السعودية. وقد تميزت هذه الورقة بقراءة جيدة وعميقة لموضوع البحث، فقد انطلق الباحث، بمنهجية باحث مقتدر، بتعريفات ومقدمات أولية، حدد فيها تعريفه للفساد وناقش خلالها رأي جهاز الحكم وتقييم النخب السعودية، باختلاف تنوعاتها، والجمهور، لحجم استفحال ظاهرة الفساد في البلاد. كما ناقش الجذور الثقافية والتاريخية لهذا الفساد، محددا جملة من العناصر التي لها تأثير مباشر، من وجهة نظره، في بروز الحالة، مبتدئاً في هذا الصدد، بتوصيف النظرة الرسمية للثروة والأملاك العامة، ومركزا على عناصر أخرى تعزيز وترسيخ الفساد، منها غياب النزعة الوطنية، والتبدلات التي طرأت على المفاهيم والقيم، وما أطلق عليه بالجنوح العام لدى المواطنين لـ "الانتقام من الدولة".

انتقل الباحث إلى مناقشة الجذور السياسية للفساد، راسماً صورة سوداوية للواقع، أكد من خلالها على استحالة معالجة ظاهرة الفساد، دون حدوث تبدل في المفاهيم والممارسة السياسية. إن غياب الإصلاح السياسي، من وجهة النظر هذه، سيؤدي إلى انفلات ظاهرة الفساد، ويجعل من الصعوبة تأطيرها أو تحجيمها.. والحرية هي الأنجع في معالجة هذه الظاهرة، وان استفحالها هو أحد المبررات لنشوء الحكم الصالح.

وقد قاد هذا التوصيف السهل والسلس والمتماسك، البعيد عن التعبيرات الفضفاضة، الباحث إلى التوصل في نهاية ورقته إلى استنتاجات، هي أقرب إلى التوصيات, حيث اعتبر تحقيق الإصلاح السياسي وحرية الرأي والتعبير وسيادة القانون شروطا لا بد منها للحد من ظاهرة الفساد. ورأى أن مشاركة الرجال والنساء في العملية الانتخابية شرط من شروط وجود الحكم الصالح، مطالباً بالوضوح والشفافية في صناعة القوانين والقرارات وتطبيقها، وتوفير المعلومة بسهولة خاصة للفئات المتأثرة بتلك القوانين والقرارات.

هناك جملة من الملاحظات أود التركيز عليها حول بعض النقاط التي وردت في الورقة. ابتداء من التعريف الذي قدمه الباحث لمفهوم الفساد. لقد عرف الأستاذ الحسن الفساد بأنه  استخدام السلطة لغايات شخصية، أو استخدام سلطة الآخرين ونفوذهم في المؤسسات العامة لمساعدة أصدقاء أو أقرباء لينتفعوا على حساب الآخرين، أو ممارسة سلوكيات تعتبر حسب القيم الاجتماعية، حى وإن لم يكن، في بعض الأحيان، ضمن المحرمات القانونية، وشذوذا قد لا يقف أثرها على من يمارسها وإنما يتعداها إلى شرائح اجتماعية أخرى.

حول هذا التعريف لدي أمران.

الأول أنني تمنيت لو أن التعريف امتد ليشمل قضايا أخرى، قد لا تدخل مباشرة في سلوك الأفراد، ولكن حضورها لا يمكن أن يوضع إلا ضمن مؤشرات استفحال ظاهرة الفساد مثل: هدر المال العام وتبذير الثروة النفطية والمائية، وخلق مشاريع وهمية، أو مشاريع غير قادرة على التنافس وليس لها عائد، وكذلك الخلل في توزيع الثروة وبرامج التنمية وعدم شموليتها بشكل أفقي مجمل المناطق... وغير ذلك مما ليس له علاقة مباشرة باستخدام السلطة شخصياً أو بواسطة الآخرين لغايات شخصية. وهذه القضايا، حسب اعتقادي، ذات علاقة مباشرة بالتبعية الاقتصادية التي هي أحد أوجه غياب الاستقلال وانعدام المشاركة الشعبية في صناعة القرارِ، والتي يشكل حضورها بيئة مناسبة للفساد.

الأمر الثاني، هو أن الإشارة إلى القيم الاجتماعية، لم يكن موفقاً، لأن هذه القيم ليست لها صفة الثبات، وكثير منها قد تغيرت، أو لديها القابلية للتبدل. وكثير أيضا مما يتوق لها الباحث من حقوق، لا يستقيم تحقيق الحرية والديمقراطية دونها هي أمور مستجدة، وكانت حتى وقت قريب، تعتبر ضمن شرائح اجتماعية واسعة من المحرمات، كتعليم المرأة والسماح لها بقيادة المركبات والمشاركة في الحياة العامة، وكثيرة هي القضايا التي تغيرت، في الخمسين سنة الأخيرة، بمنظومة القيم، وأثرت بشكل إيجابي يمكن التعرض لها في هذا السياق.

نقطة أخرى كنت أفضل لو أن الباحث قد تجنبها وهي موضوع الانفصام في الشخصية الذي ورد في التمهيد للبحث. حيث أشار في مقدمة بحثه إلى وجود صورتين حادتين لا تخلوان من المبالغة منوها إلى سيادة ثنائية متنافرة تتمثل بالمبالغة في التركيز على البيئة الدينية، والحفاظ على بعض المظاهر التطهرية، وبين الزيف الذي يجري داخل الأسوار وخارج الحدود، من جهة أخرى. وان الباحث يفهم، بسبب ذلك، إلى حد ما، المقولة السائدة أن المجتمع السعودي في مجمله يعيش انفصاماً في الشخصية.

إن هذا التوصيف للواقع المجتمعي السعودي يثير تساؤلات كثيرة حول منهجية الاستنتاج. وذلك أن الحالة التطهرية التي أشير لها ليست موجودة، على أرض الواقع، لا في داخل الأسوار ولا خارجها. وأن ما يجري حقيقة يقتصر على فرض ممارسة قسرية في كثير من الأحيان لبعض الطقوس واقتصار في الالتزام بظواهر الأحكام الشرعية، دون وعي البيئة والظروف التي حكمت بروز تلك النصوص في الحقب التي برزت فيها الدعوة الإسلامية، وفي مراحل لاحقة عندما جرى تدوين الفقه وبرزت المذاهب الإسلامية الفقهية على اختلاف رؤاها وتوجهاتها. إن هذه المبالغة تركز على القشور، وتعيش خارج العصر، بل وتتصادم معه في حالات كثيرة. وهكذا فإن الإشارة إلى الحالة التطهرية سوف تقحمنا، عند المقارنة والمقاربة التاريخية، في مساجلات ربما لا تخدم هدف البحث. فالطهر الديني، على كل، في مجمل تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، لم يتعد فترة الخلافة الراشدة التي لم تتجاوز الثلاثين عاما من عمر الخلافة العربية الإسلامية، وحتى تلك المرحلة كانت مليئة بالمحن والفتن والمنازعات، ويكفي الإشارة إلى أن ثلاثة من الخلفاء الأربعة انتهت حياتهم غيلة على يد أشخاص ينتسب بعضهم إلى نزعات إسلامية جذرية، ولا شك في أن ذلك قد غيب، أو على الأقل أضعف، من إمكانية الحديث عن نزعات تطهرية، في مجمل التاريخ العربي الإسلامي نظرا لغياب المناخ المناسب لتطبيق جوهر الدين وتشريعاته.

لا شك في أن كل المجتمعات الإنسانية، والمجتمع السعودي شأنه في ذلك سائر المجتمعات الأخرى، عندما تمر بأزمات حادة، ومراحل انتقال تتيه فيها الرؤى وينعدم فيها اليقين تلجأ إلى الحيل الدفاعية لتحقيق توازنها النفسي. ومن المؤكد أن الطفرة النفطية أحدثت هزة كبيرة في المجتمع السعودي، وبدا الاهتزاز وانعدام الرؤية ومحاولة الكشف عن هوية جديدة أحد تعبيرات واقع الحال، وذلك شيء طبيعي جدا يحدث في المجتمعات الأخرى التي تواجه بمثل هذه الهزة. ومن هنا تأتي الإدانة للدولة والمجتمع ووصمها بالانفصام، في غير سياقها، ولا تستقيم مع التحليل ومع النظرة المتفائلة للمستقبل. إنها أولا إدانة فرضت على الجميع. وساوت بين الكل، وغيبت إمكانية التطلع إلى قوى مستقبلية ناهضة تعمل على تغيير الواقع، باتجاه محاصرة عوامل النكوص والإحباط والقضاء على مظاهر الفساد.

أصاب الباحث كبد الحقيقة، حين ربط بين غياب الحرية والديمقراطية واحترام القانون، وبين الفساد. ومن المؤكد أن هناك علاقة تبادلية بين سيادة الحرية والديمقراطية واحترام القانون، وبين استفحال ظاهرة الفساد. فبالقدر الذي تبهت فيه الأولى- الحرية والديمقراطية- بالقدر الذي تنمو فيه مظاهر الفساد. وذلك ما يجعل من مطالب الديمقراطية والحرية وسيادة القانون ليست فقط حقوقا إنسانية أساسية، وتعبيرات عن التزام أخلاقي، بل أيضا عناصر ملحة كي يتقدم المجتمع ويبني نهضته وتطوره على أسس صحيحة.

أما أن يكون الفساد السياسي في جانب منه حاصل تشابك بين الموروث الثقافي والعلاقات القبلية والمناطقية، فذلك صحيح، ولا ينبغي أن يشار إليه باعتباره رأيا خاصا بجهاز الحكم، فقط كما أشار إلى ذلك الباحث. فإذا لم يكن الفساد حاصل تشابك بين الموروث الثقافي والعلاقات القبلية، إلى جانب الهيكلة السياسية التي يمارس فيها البناء الفوقي أداء وظائفه، وغياب العلاقات التعاقدية وانعدام المشاركة في صناعة القرار، وجميعها تعبيرات عن ذلك التشابك، فما تكون أسباب الفساد إذن؟!

وقع الباحث في خطأ، هو حسب اعتقادي غير متعمد. فقد أدان، من جهة، موقف النخب التي تعتبر الخصوصية السعودية قاعدة للتحليل، مرسخة في ذهنيتها أن الإصلاح السياسي مضاد للقيم الدينية والأعراف والتقاليد السائدة. وفي هذا الصدد استعان البحث ببعض الآراء الرافضة لفكرة الخصوصية السعودية، وهي استعانة جميلة ومركزة. والواقع أنني شخصيا أشاطر في النظرة، وأرى أن القوى الوطنية هي أول من ينبغي أن تتصدى لمفهوم الخصوصية السعودية، الذي استخدم كرباجا وسيفا مسلطا في الداخل من قبل القوى الأصولية، التي تعارض أي تطور. إنها تحت ذريعة هذه الخصوصية، تحرم كثيرا مما ينبغي أن يكون مباحا، وتحول دون تحقيق النهضة والتطور. فهي تحرم قيادة المرأة للمركبات، وتحرم الانفتاح وقيام مؤسسات المجتمع المدني، وتتصدى لحقوق الإنسان، وحق المواطن في صناعة القرار. لكن الباحث، وقع في ذات الخطأ الذي يروج له من يتحدث عن الخصوصية، وإن كانت الخصوصية التي تحدث عنها جاءت معكوسة. لقد أشار الباحث في معرض حديثه عن الجذور الثقافية للفساد إلى خصوصية سعودية هو نفسه عند حديثه عن رأي النخب السعودية في الفساد، قد رفض فكرة الخصوصية واعتبرها أحد معوقات التقدم.

أنا أثق بأن الباحث حين تحدث عن الخصوصية لم يقصد بها التوافق مع المعنى السائد الذي تروج له العناصر الأصولية، لكن الإيحاء بالخصوصية بالمعنى السلبي أو الإيجابي، أو بأي معنى كان يجعلنا خارج المحيط الذي نعيش فيه. بل إنه للأسف أمام سخف الطروحات التي تدعو إليها تلك العناصر الأصولية جعل منا بشرا نعيش خارج التاريخ، وربما في كوكب آخر، خارج هذا الكون.

سيواجه مثل هذا التحليل المغرق في البحث عن الجذور الثقافية للفساد بنقد حاد يتمحور في الإشارة إلى أن الفساد، بشكل عام، هو حاصل تفاعل وتجاذب بين جملة من العناصر، وأنه تعبير عن مرحلة تاريخية من السيرورة الاجتماعية وعن غياب لعناصر طبقية فاعلة ومؤثرة في الحراك الإجتماعي، وهو أيضا، كنتيجة لذلك، انعكاس لغياب هياكل الدولة بمفهومها الحديث، طبعا. وسيشار إلى أنه في مناطق مجاورة في مصر والعراق واليمن والمغرب، وحتى الأردن الدولة الحديثة المنبثقة عن سايكس - بيكو، جميعا حكمتها أسر بحكم انتماءاتها العشائرية والقبلية، وفرضت على بلدانها بصماتها وتسميات أسرها. ففي مصر كانت أسرة الخديوي تتوارث الحكم، وفرضت على البلاد بصماتها. بل إن محمد علي باشا، قائد النهضة المصرية الحديثة، اعتبر كل الأراضي المصرية جزءا من إقطاعياته، وساد نظام ملكية الأرض بشكل هرمي، جاءت الدولة في السلم الأعلى منه، ولم يحدثنا تاريخ تلك الحقبة عن فساد فاضح في مصر بالمعنى الذي أشارت إليه الورقة. وبالمثل يمكن الإشارة إلى أنه كانت هناك ملكية هاشمية في العراق أطيح بها عام 1958 إثر انقلاب تموز/يوليو، وأخرى لا تزال قائمة بالأردن. وقد فرض الملوك الذين حكموا هذين البلدين بصماتهم وأسماء عوائلهم على البلاد. وكانت هناك مملكة متوكلية في اليمن، وأخرى لا تختلف كثيرا، وما زالت قائمة في المغرب، ولم يحل وجود الأخيرة دون مشاركة المعارضة السياسية بالحكم، بل وقيادة الحكومة كما هو حاصل الآن في تلك البلاد.

ولن يجادلنا زميلنا الباحث، في أن حجم مستوى استشراء ظاهرة الفساد في هذه البلدان ليس بمستوى واحد، وأن إيقاعه وزخمه يختلف من مكان لآخر، رغم نشازه أينما كان، وأيضا رغم تشابه شكل الأنظمة في البلدان التي أشرنا إليها بكثير من المجالات، على الأقل في كون من يقف على قمة الحكم فيها هم أسر وعشائر.

إن ذلك يفرض علينا إعادة القراءة في أسباب استفحال ظاهرة الفساد بمنهجية أخرى بديلة، لا تخرجنا من دائرة القانون العام ولا تجعلنا خارج الكون. ولعلي أميل في هذا الصدد إلى العودة إلى ماكس فيبر، وتقسيماته لأشكال الحكم القبلية والكارزماتية والقانونية العقلانية، مع بعض التعديلات. وربما تعتبر دراسة الدكتور هشام شرابي عن البنية البطركية، والتي زاوج فيها بين المفهومين الفيبري والماركسي، مفيدة لتسليط الضوء على هذا الموضوع.

إن الحديث عن أسباب الفساد ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار جملة من الحقائق، يأتي في مجملها الموقع التاريخي للنظام السياسي الذي تمارس تحت مظلته حالة الفساد، وطبيعة علاقاته المحلية والمحيطة والدولية، ومستوى النمو للهياكل الاجتماعية القائمة، والقوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة، ومستوى الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد، وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني فيه إلى جانب تأثير الموروث في صياغة العادات والتقاليد، وتأثيراتها على الأداء البيروقراطي في الدولة.

ويمكن أيضا أن يأخذ عنصر إنتاج النفط، وما عرف بالطفرة النفطية، التي جعلت عددا من الكتاب المعروفين يتكلمون عن حقبة سعودية أو حقبة نفطية في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، كعامل متدخلIntervening Variable  في صياغة نسق العلاقات بين المواطنين. فهذا العامل قد أدى إلى زيادة دخل الدولة بأرقام فلكية، بالمقارنة مع ما كان لديها من قبل. وقد أتاح ذلك الفرصة لبروز مجموعة من العوامل الجديدة. أولها أن الدولة قامت بضخ أموال كبيرة في السوق، وخلق ذلك علاقات ريعية، وطبقة طفيلية ليست لها علاقة بالانتاج من قريب أو بعيد. وكان من أحد نتائج ذلك حدوث مقايضات أدت إلى مشاركة نخبة من الشباب والمثقفين الذين كان يعول عليهم في قيادة مشروع الإصلاح في مشاريع احتيالية، واستلامهم لوظائف قيادية في الشركات متعدية الجنسيات التي قدمت كنتيجة طبيعية للطفرة. ومن هنا فإن النفط حقق عدة أغراض ساهمت في تعضيد حالة الفساد. فقد عطل من الحراك السياسي المطالب بإصلاح القضاء وتطوير القوانين وإعادة الاعتبار لمفهوم المشاركة في صنع القرار. كما ساهم في ترسيخ فكرة الاستسلام للاقتصاد الريعي وترسيخ العلاقات البطركية الموروثة، وتغليفها بمظاهر تمدين مزيفة، وضعت لمصلحتها إمكانيات الطفرة.

إن هناك ظروفاً مستجدة تجعلنا نعتقد أن العمل في سبيل محاصرة الفساد لن يتم عن طريق الضربة القاضية، وإنما من خلال عمل دؤوب ومثابر. وعبر تصعيد الحراك السياسي السلمي، لخلق حالة من التراكم، تفضي في النهاية إلى تحولات جذرية رئيسية، عمادها حرية الإنسان وحقه في الحياة الكريمة، وتحقيق التكافل، وقيام علاقات تعاقدية، والدفع بعملية بناء مؤسسات المجتمع المدني. ولا شك في أن تلك جميعاً تمثل خطوات راسخة في برنامج القضاء على مظاهر الفساد وتحقيق الحكم الصالح.

______________________

* قدّم التعقيب في الندوة التي أقامها مركز دراسات الوحدة حول الفساد والحكم الصالح في العالم العربي في بيروت (20-22 سبتمبر 2004).