رحيل المالكي وفرح دعاة التكفير والتطرّف

 

ورحل زعيم الحجاز الديني، وفقيه مكّة، السيد محمد علوي المالكي الى حيث اختاره الله يوم الجمعة الموافق للتاسع والعشرين من أكتوبر 2004. فاهتزّ الحجاز وأهله، واضطرب الصائمون العابدون (ممن يعرفون قدره داخل البلاد وخارجها، من أندونيسيا الى ماليزيا مروراً بالخليج ومصر وحتى أقاصي المغرب العربي) لهذا الحدث الجلل والمصاب الأليم لفقدان هذا الرمز. وحدهم فقط، متطرفو الوهابية، من عبّر عن فرحة بعضها مكتوم والآخر معلن بأن (مبتدعاً) قد أراحهم الله بموته وموت بدعته!

لا شيء يحزّ في النفس ويبعث فيها الألم، أكثر من أن يصبح موت (رمز التعددية ووجهها الوضّاء) ورمز (التسامح والسماحة) و (القبول بالآخر) عيداً لقاصري النظر، ومنتجي الفكر التكفيري المنحرف.. وانتصاراً لمنهج ومذهب لم يثبت أن قادر على الحياة بدون العيش على أكتاف دولة تحميه وتدعمه وتنشره.

لم يوفّر متطرفو الوهابية تهمة أو شتيمة إلا وألصقوها بذلك العَلَم، لمجرد أنه يخالفهم في (بعض) ما يرونه من اجتهادات. فأصبح الراحل بنظرهم، خرافياً، صوفياً كافراً، مبتدعاً، عابداً للأوثان دون الرحمن، يدعو الى الجاهلية وإعادة الناس الى الشرك بالله، تعالى الله عمّا يقولون. وقد ألّفوا الكتب ضدّه وروجت داخل البلاد بأرخص الأسعار، وانبرى زعماء الوهابية للتشهير به والتحريض ضد شخصه، وتناوله رواد منابرهم بالشتم الصريح، وعلى منابر النت لم يذكروه إلا بكل نقيصة واحتقار، دون أن يسمح له بالردّ لا في صحيفة ولا في مجلة ولا في إذاعة، ولم يسمح له بطباعة كتبه ولا بنشرها في الداخل، انتصاراً من قبل رجال الحكم لمدرسة الوهابية وقيمها المناطقية.

إنّ رحيل السيد محمد علوي المالكي لن يؤدي الى نصر (مذهبي) أوتوماتيكي للوهابية؛ فإذا كان دعاتها قد فشلوا في (وهبنة) الحجاز بعد ثمانين عاماً من الإستيلاء عليه، فإنهم لن يجدو في وفاة السيد المالكي ذلك النصر الذي ينتظرونه، إذ قد توفي من هو أعظم منه من رجالات الحجاز وعلمائه؛ خاصة وأن القضية ليست صراعاً بين مدرستين فكريتين بقدر ما هو محاولة تنسيج المجتمع ضمن بوتقة ثقافية واحدة مدعومة سياسياً ومناطقياً.

إن رحيل العَلَم السيد المالكي هو خسارة لكل أبناء الوطن، بمن فيهم أولئك الباحثون عن نصر مذهبي، وبمن فيهم أولئك الذين رموه بالحجر وبالشتم وبالتسخيف والتكفير، ابتداءً من قمة المؤسسة الدينية الرسمية التي وقعت فتاوى تكفيره وطرده من عمله كمحاضر، وانتهاءً بتلك الأيادي التي خطّت الشتم ولم توفّر الإتهامات الباطلة بحقّه، كما فعل سفر الحوالي والشيخ المنيع وغيرهما.

ذلك أن المالكي مثّل الصورة الرمز في الإصرار على بقاء (التنوّع) الثقافي والمذهبي في المملكة. كان وجوده ومدرسته ـ رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه ـ الدليل الساطع على مقاومة (الأحادية الثقافية) التي لا تضرّ المجتمع فحسب، بل تضرّ بأصحاب تلك الدعوة، لو كانوا يعلمون. فضلاً عن أن وجود التنوّع، وتحدّي البقاء الذي أثبته المالكي، وتحمّل في سبيل ذلك غضب وعَنَت المؤسستين النجديتين السياسية والدينية على حدّ سواء، كان تأكيداً على بقاء ما لا يجب إلغاؤه، وحفظ ما لا يمكن دمجه.

لا شكّ أن رحيل الرمز من الصورة في هذه الأجواء مخيبة الآمال في المملكة على صعدها الثقافية والسياسية، وما يكتنفها من مؤامرات وعنف وإقصاء، يمثل خسارة لكلّ أولئك المواطنين الباحثين عن التعايش والتسالم والتصالح بين مكونات المجتمع السعودي مختلفة المشارب والتوجّهات. ولعل فقدان الزعيم الديني، يغري دعاة التطرّف والتكفير ومن وراءهم من المسؤولين والأمراء الى إعادة الكرّة بتبنّي سياسات إستئصالية جديدة في ميادين الثقافة والدين وأسلمة المواطنين من جديد حسب العقيدة النجدية السلفية الصحيحة!

انتقل السيد محمد علوي المالكي الى الرفيق الأعلى، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

ولنا أملٌ وطيد، أن تقوم الثلّة المؤمنة من أهله ومحبيه وأتباع مدرسته، بالسير على خطاه بالسماحة والإعتدال وأيضاً بالإصرار الذي أبداه الراحل.