موسم الهجوم على طاش!

 

عبد الله بن بجاد العتيبي

 

في كل عام تقريباً وفي شهر الرحمة شهر رمضان المبارك، تثار - عادة - زوبعة محلية حول المسلسل السعودي الناجح (طاش ما طاش) وهو مسلسل يعنى بالنقد لكثير من الممارسات الخاطئة في المجتمع سياسياً ودينياً واجتماعياً، ويعرض ذلك كله في قالب كوميدي فريد، حتى لقد أصبح هذا المسلسل جزءاً من بيئة رمضان المحلية يهفو الناس لمشاهدته وينتظرونه بعد كل إفطار.

الزوبعة التي تثار تعني أولاً نجاح المسلسل في ملامسة التابو المحلي في كل مستوياته الزائفة، ولكن الذي أجج الحملة في السنوات الأخيرة هو شعور بعض التيارات المحلية بخطر كبير من هذا البرنامج، يقولون انه برنامج يهدم الدين ويسخر بأحكامه ويشوه المجتمع ويسيء للأخلاق، ولكنك عند التدقيق لا تكاد تجد شيئاً من ذلك، فمن ذا الذي يريد هدم الدين أو السخرية بأحكامه وكل القائمين على المسلسل من أبناء المسلمين ومن ذا يشوه نفسه!، بل ان التلفزيون السعودي يمنحه أفضل أوقات العرض التي تتهافت على العرض فيها كل البرامج الساعية للنجاح والتأثير، والتلفزيون السعودي محافظ بطبيعته وسياسته المعلنة والمطبقة، ولا أحسب ان بالامكان المزايدة عليه في هذا الجانب وبهذا الشكل.

ان مشكلة بعض منتقدي هذا المسلسل معه، هي مشكلة ذات خلفيات أبعد فهم مثلاً يحرمون التصوير بكافة أشكاله ويجرمون المجتمع بكافة شرائحه وتسيطر النظرة المتشائمة وسيئة الظن لكل من يعمل خارج نطاقهم أو بعيداً عن وصايتهم. فهم يتوهمون خطأ أنهم أوصياء الله على خلقه، فهم وحدهم من حقهم رصد الخلل في المجتمع والاقتصاد والسياسة والأنظمة الداخلية والقضائية وسلوكيات الأفراد بل وضمائر الخلق وهذا الوهم لم يزل يتضخم حتى أصبحوا يعتقدون أن "النقد والإصلاح" مستعمرة خاصة بهم، فلا نقد إلا منا وبنا، ولا إصلاح إلا عن طريقنا، لذلك فإنهم أو كثير منهم على الأقل شعروا بمنافسة كبيرة من هذا المسلسل الناجح أورثتهم غيرة غير محمودة من نجاحه وامتلاكه لأدوات التأثير في فكر وسلوك وحركة المجتمع فحاربوه لا لأنه أخطر الموجود بل لأنه تعدى على ما توهموه مستعمرة لهم وحدهم.

وهو وهم بنوه على اعتقادهم بأنهم الناطقون في كل شيء، لذلك فإن أقوالهم وأفعالهم وسلوكياتهم وأفكارهم تحمل قداسة مطلقة، فانتقادها هو انتقاد للدين وللنص ونسوا في غمرة الحماسة الهوجاء أنهم - وآسف على التأكيد - بشر يصيبون ويخطئون، وأقوالهم وأفكارهم وسلوكياتهم تحمل الغث والسمين والصحيح السقيم والراجح والمرجوح، وهم شريحة من المجتمع ينتقدونه وينتقدهم يصلحونه ويصلحهم، ينصحونه وينصحهم فالعلاقة تبادلية وليست كهنوتية كما يريد لها البعض، وعلى سبيل المثال فنقد بعض المتدينين وسلوكياتهم وأفكارهم الخاطئة أمر مهم وملح خصوصاً في مثل هذه المرحلة وهو أمر كان الكثيرون يؤجلونه حتى اصطلينا جميعاً بنار متطرفيهم، وقد نجح طاش في لمس هذا التابو المزيف وإن كان لم يصل بعد للمستوى المطلوب من النقد، بل انه حين عرض للإرهابيين السعوديين لم يعرضهم بهيئات خارجية تدل على شريحة المتدينين في المجتمع حتى لا يساء لهذه الشريحة التي تشتمل على كثير من الخيرين والصالحين والناصحين، ولكنه عرضهم بشكل عام لا يشير لفئة اجتماعية دون أخرى مع معرفة الجميع من هم المعنيون.

ونحن نجد ذلك الخطاب الناقد لطاش قد امتلأ بالتنظير الذي كانت كتابته إبان سيطرة الحضارة الإسلامية على حضارات الأرض، والذي كانت الخيارات فيه متاحة بين الخطأ والصواب، أو بين الصواب والأصوب، ولكن الوضع تغير تماماً اليوم فأصبحنا أمة في ذيل الأمم وأصبحت خياراتنا تتراوح بين السيئ والأسوأ، أما المتطهرون المبتعدون عن كل نقص أو عن كل خطأ فإنهم سيبقون في معتزلاتهم العاجية يمارسون عباداتهم، وليتهم يكتفون بذلك ويتركون من اختاروا الإصلاح رغم كل محاذيره في حالهم، ولكنهم للأسف يسعون لهدم كل ما يبنيه المصلحون وتنقص كل ما يعملون.وحين نعرّج على الخلفية الشرعية البعيدة عن المؤثرات الجانبية لمثل هذا الرفض سنجدها عبارة عن الموقف من التصوير والمرأة والتمثيل، ولتجلية الأمر أكثر فإننا سنقرر هذه المسائل من وجهة نظر شرعية مختصرة.

التصوير في الشريعة حرّم منه ما قصد به مضاهاة الله أو كان فيه تعظيم مخل بالدين وأبيح منه ما عدا ذلك فكان النبي يتخذ الوسائد ذات التصاوير وكان النقد في زمنه مليئاً بالتصاوير وكان أصحابه يتخذون الخواتم وفيها صور الحيوانات ويجعلون الصور في حلية سيوفهم ونحو ذلك من الممارسات التي تتعامل مع التصاوير غير المعبودة تعاملاً عادياً، ولولا خشية الإطالة لأكثرت النقول التي تؤكد هذا وربما عدت لها لاحقاً.أما التصوير الفوتوغرافي فقد أباحه جماعات من أهل العلم منهم الزرقاء والقرضاوي وابن منيع وابن عثيمين وأبوزهرة والبوطي وقبلهم وبعدهم كثير من أهل العلم.

أما المرأة فإن "النساء شقائق الرجال" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكام الإسلام كلها توجهت للرجل والمرأة على حد سواء في العقائد والعبادات والمعاملات وكافة نواحي الحياة، ولم يستثن من ذلك إلا أحكام مخصوصة في عدد من أبواب الفقه، فقد كانت المرأة في زمن النبوة مثالاً في الحركة والمشاركة والتفاعل بكل أريحية، فقد كانت تحضر الصلوات في المساجد فروضاً وسنناً، وكانت تخرج للغزو مع الجيش وكانت ترعى الغنم وتبيع وتشتري في السوق وتزرع وتحصد وتمرّض وتسافر في البر والبحر، وتحدث الرجال ويحدثونها وتسلم عليهم ويسلمون عليها وتحضر الأفراح وتسمع الغناء والحداء وتضرب الدف عند الرجال وتقدم المشورة في أوقات الحرج وتؤازر زوجها وأهلها وتنظف المسجد بحضور الرجال وتخرج لحاجتها أيا كانت في نصوص لا تكاد تحصى كثرة لتأكيد هذا الأصل، ونقد المسلسل لبعض المظاهر المتعلقة بهضم حقوق المرأة أو التناقض في مسألة لباسها بين الداخل والخارج أو نحو ذلك لا يسوّغ الهجوم عليه بأنه مسلسل يتخذ موقفاً سلبياً من عقيدة المجتمع وتدينه.

وأما التمثيل فأكبر دليل على اباحته هو البراءة الأصلية، ثم قد فعله الملائكة حين تمثلوا بالبشر وتقمصوا شخصياتهم، وقد فعله أنبياء الله وصفوة خلقه ومن ذلك قصة ابراهيم مع قومه (فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي..) وكذلك قصة يوسف حين اتهم اخوته بأنهم سارقون لسقاية الملك ونحو ذلك.

إذاً فالتصوير والتمثيل جائزان وخروج المرأة فيهما بالضوابط الشرعية لا محظور فيه وان اختلت بعض هذه الضوابط فقد أفتى عدد من أهل العلم بجواز مشاهدة ذلك منهم عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الفقيه عبدالله بن بسام - رحمه الله - وفيصل المولوي وغيرهم نظراً للمصالح الكبرى المحيطة بذلك.إذاً فالحملة على هذا المسلسل تدفعها - أحياناً - مكتسبات سلطوية أو اجتماعية ومنافع حزبية ضيقة أكثر مما تدفعها مواقف شرعية منضبطة.هذا مع أننا ننتقد تقصير المسلسل في اتقان حبكاته الدرامية وأفكاره ورصد الخلل الذي ينتقده بشكل علمي وتفرد مجموعة صغيرة فيه وعدم تحوله لمدرسة تمثيلية تثري الساحة المحلية بالأكفاء والمتميزين.

الرياض، 1/11/2004