إصلاح العالم سلفياً بعد فشل الإصلاح الداخلي السعودي

 مرتضى السيد

 يثير تدخّل السعوديين (السلفيين بوجه خاص) في شؤون الدول الأخرى سؤالاً مهماً:

هل ينطلق هذا التدخل من (عقيدة دينية) أم من (أو بسبب) نقص وضعف في الهوية الوطنية، أم الإثنين في حال اعتبر الدين بمفهومه الأممي نقيضاً للهوية الوطنية؟

يُطرح هذا السؤال بصور مختلفة في الصحافة السعودية، وقد يعالج كثيراً من زاوية فقهية أو من جوانب المصلحة السياسية فحسب. وفي الحقيقة فإن هذا السؤال بقدر ما يشمل التيار السلفي فإن الحكومة السعودية معنيّة به، كونها ـ هي الأخرى ـ متهمة بالتدخل في شؤون الآخرين، على أرضية دينية، أو أنها تبني سياساتها الخارجية على أرضية دينية. ولكن الحقيقة قد تكون أبعد في الوغول وأوسع من هذا الحصر.

فالإنتماء الشمولي الأممي الى الإسلام، (قد) يحجب أو يضعف الإنتماءات الأقل، وبينها الإنتماءات الوطنية والقبلية والعشائرية؛ ومما يؤسف له أن المفكرين الإسلاميين فشلوا حتى الآن في التنظير الصحيح لهوية وطنية إسلامية مندمجة، بحيث تتداخل عناصر الهوية بين المحتوى الثقافي للدين وبين المحليّة المؤطرة في هذا العصر ضمن حدود سياسية واضحة.

لكن ما يميّز السعوديين عن غيرهم، هو أن الإنتماءات الدينية، جعلت من الدولة السعودية نفسها ذات قيمة قليلة. فالهوية الواسعة للدين ـ كما هو معروف ـ تتخطّى الحدود الى حيث يوجد المسلمون كأكثرية، بل وقد تصل الى أماكن تواجد الأقليات الإسلامية، وهو ما يمنح (الأممي) المسلم أو الإسلامي تصور دولة مترامية الأطراف من جاكرتا الى المغرب؛ لكن هذا الإسلامي أو المسلم يعجز عن فهم أن هذه الدولة المتخيّلة هي بالضرورة وبحكم العالم اليوم، دولة وطنية/ قطرية، أي دولة متعددة الأعراق والثقافات، لها حدودها وعلمها وحكومتها ورموزها واقتصادها وعلاقاتها مع المنظمات العالمية ومع الدول المجاورة. بمعنى آخر، إن الدولة الإسلامية الواحدة، التي تتخذ شكلاً إمبراطورياً في حال تحققها على الأرض، وليس في المخيال الديني ـ الشعبي، هي دولة وطنية، لا يمكن لها أن تتوسّع عبر الحروب الدينية (جهاد الطلب)، أو الحروب السياسية، ولا بدّ لها أن تتوقف عند حدود ثابتة معترف بها. ولا بدّ لها أيضاً، مادامت الدولة ستتضمن فئات دينية مختلفة ومذهبية متعددة ولغات وأقاليم متغايرة اقتصادياً وجغرافياً، لا بدّ لها آنئذٍ، أن تتطور من جديد لتؤسس مفاهيم المساواة والعدالة بين مواطنيها، بشكل يمكننا القول معه أن الفقه الإسلامي ـ المذاهب الأربعة بوجه خاص ـ لا بد أن تجري تغييرات عميقة في اجتهاداتها المتعلقة بالعرب والأعاجم في مسائل متعددة، وتضعهم على قدم المساواة في الحقوق والمواطنة، وهو أمرٌ يصعب تحصيله، فضلاً عن الحاجة الى اجتهادات حول كيفية الحكم للدولة الإسلامية المتخيّلة، هل هو للعرب، أم يجري وفق الأكثرية، والأكثرية كما نعلم غير عربية، الى غير ذلك من التساؤلات.

بيد أن فشل الدولة الوطنية في العالم العربي، عزّز من أحلام الأممية الدينية، والقومية العربية.. وكلما مضى زمن أثبت الطرفان أن ذلك الحلم لا يمكن تحققه، حتى وإن جرى اختراق الحدود الوطنية بمفاهيم وممارسات لم تخرج عن إطار التجمعات الصغيرة أو قناعات الأفراد.

بلا شك، فإن النزعة الوطنية، حتى بين الإسلاميين والقوميين العرب مختلفة بين قطر وآخر. فبمقدار ما تتعزز الهوية الوطنية ـ بعيداً عن طبيعة الحكم ـ كلما تذبل قيمة الدعوات الآتية من خارج الحدود، أو النزعات التي تنتظر التصدير خارج الحدود، حتى وإن لم يحل الإشكال النظري من جهة الولاء للدولة أم للأمة. وقد لاحظنا أن الكيانات التاريخية عموماً، كما في الشام والعراق ومصر واليمن، قد أفرزت شعوراً وطنياً أقوى من تلك الكيانات السياسية الوليدة، كما في المملكة العربية السعودية.

بالطبع هذا لا يكفي للإجابة على تساؤل:

لماذا تبرع 26 عالماً سعودياً بفتوى الجهاد في العراق؟؛ فإن كان الأمر خاصاً بالعراقيين، فالأكثرية الكردية والشيعية يرون الأمر بصورة مختلفة، وهنا يظهر العلماء السلفيون وكأنهم يتدخلون في شأن لا يدركون مداه، وهو تدخل في شؤون الآخرين حين تفتي لهم دونما طلب أو حاجة، أو تفتي لمجموعة منهم في وضع يمثل تناقضاً مع فتيا محلية عراقية يتبعها أكثرية الشعب العراقي، هذا اذا تجاوزنا موضوع ما تؤدي اليه الفتوى من حرب أهلية ـ طائفية، كونها لم تميّز في مجاهدة الأميركيين أو من يحاولون أخذ زمام الأمور بيدهم لإنقاص عمر الإحتلال الأميركي. أما إذا كان المعني بالفتوى شاملاً للجمهور السعودي، وهو ما ينفيه المفتون، فنحن هنا أمام معضلة كبيرة تحتاج الى تفكيك وتتعلق بمسؤولية الدولة عن تلك الفتوى، وما إذا كانت تمثل انشقاقاً على نظام الحكم الذي لا يؤمن بها.

لا شك أن الهوية الوطنية ضعيفة في المملكة، الأمر الذي يفسح المجال لتبني هوية واسعة الإطار كالأممية الدينية او القومية العربية كأيديولوجيا، أو لتبني هوية ضيّقة تميل الى الإنفصالية كالمناطقية في الحجاز (الغرب) والشيعة في الشرق مثلاً. لكن التيار السلفي في المملكة حائر بين استقطابين حادّين:

المناطقية النجدية، والأممية الدينية.

المناطقية والأممية يبدوان متداخلين من حيث الفكرة، ولكنهما في المحصلة متعارضين أشدّ التعارض.

فالمناطقية تستقي قوتها من ذات المنبع الأممي. أي أنها مناطقية مدعومة بخلفية ثقافية دينية يوفرها المذهب السلفي المحلي (الوهابي)، الذي يعتبر مذهباً مناطقياً، من حيث المنتج الفكري والبيئة التي ولد فيها، والقيادة التي تقوم عليه اليوم، بل ومن حيث المنتج السياسي (الدولة) التي بناها المذهب واستولى عليها أتباعه الذين تشكلت قناعاتهم وأفكارهم ومصالحهم من خلال قنوات المذهب وانتماءاتهم العامة إليه.

هنا المذهب الوهابي يعزّز المناطقية، ويفترض فيه لاحقاً أن يعزز القطرية/ الوطنية، بحسب المنتج السياسي القائم (الدولة المنتجة عبر التحالف بين الوهابية وآل سعود وكلاهما نجديان). هنا المناطقية النجدية حافظت على لحمتها، بل تعززت خلال العقدين الماضيين، مدعومة بقوة الدولة وسيطرتهم عليها، ومدعومين بالتراث الوهابي وما يوفره من عصبيّة. فالمناطقية الحادّة واحدة من أدوات احتكار السلطة في الدولة، وهي بالتالي غير معنيّة بهويّة وطنيّة أوسع تشمل القاطنين لحدود الدولة، فتساويهم بأتباعها، ولهذا فشلت الدولة المنجّدة في تحقيق هوية وطنية الى هذا اليوم.

هنا يأتي التساؤل الأهم: لماذا قفز السلفيون الذين فشلوا في تحقيق إجماع داخل الدولة القطرية السعودية، الى تبنّي الإنتماء الإسلامي الشمولي، رغم المناطقية الشديدة التي يتصف بها المذهب والأتباع، ورغم أن من مصلحة الدولة المنجدة إبقاء العمل والحراك الديني ـ السياسي ضمن الدولة السعودية، وعدم الخروج به خارجاً؟

الجواب هو أن الوهابية شأنها شأن المذاهب الإسلامية الأخرى تحمل خصائص أممية، كما هو الإسلام نفسه، وإذا كانت الغلبة محلياً لمناطقية المذهب، فإنها ـ الوهابية ـ تمتلك مقومات الخروج بالفكرة والمعتقد الى خارج الحدود، سواء تعلق الأمر بالدعوة الى الإسلام بين غير المسلمين، أو ـ وهو ما يؤكد عليه دوماً ـ تحويل المسلمين من مذاهبهم لاعتناق المذهب السلفي ـ الوهابي.

يضاف الى هذا، فإن المذهب الوهابي يعتبر من أشدّ المذاهب الإسلامية حركيّة، لا يضاهيه في هذا إلا المذهب الشيعي، أي أن المذهبين يمتلكان نزعة (توسعية) الأول يقرنها بأداة الحرب والسلاح والحروب الدينية الجهادية باعتبار الآخر مشركاً، والآخر يختصرها في الدعوة السلمية والمحاججة التاريخية والتراثية. ولأن المذهب الوهابي بحركيته المدهشة قد أنتج الدولة، وساهم في إدارتها ولازال، فإنه يرفض أن يبقى أسير الحيطان الحدودية؛ فالتوسع واجب ديني لمن يمتلك الحقيقة المطلقة الصافية التطهرية، ولا بد من أن يسقى الآخر المختلف من كأسه، ولو مرغماً بالسلاح والعنف.

فإذا ما أضيف الى ضعف الهوية الوطنية، وحركية المذهب، عنصر التسييس الجديد الذي طرأ على أتباعه خاصة منذ بداية التسعينيات الميلادية (بعيد احتلال صدام للكويت) مشفوعاً بتوتر عقدي عالٍ، وانكسار إسلامي فاضح.. فإننا ندرك لماذا يذهب السعوديون ـ السلفيون دونما سواهم ـ الى الخارج للقتال؟ ولماذا في الأصل تقوم السلفية بنسخها المتعددة في كل البلدان العربية والخليجية بالمساهمة في هذا النوع من (الجهاد عابر للقارات).

السلفيون كما قال كثير من الأتباع هم المجاهدون الأمميون.. وبين هؤلاء يأتي السعوديون في المقدمة، محملين بتراث متطرف أكثر وضوحاً وحدّة، وبخلفية معنوية تستقي معينها من وجود الحرمين الشريفين، الأمر الذي يمنح الفكرة السلفية بنسختها الوهابية كما يمنح حاملها السعودي قوّة أكبر في الإقناع، فضلاً عن الصورة الإنطباعية عن السعودي ـ السلفي بأنه غنيّ مادياً، وقد جاء الى الجهاد متحلّلاً من الدنيا، بائعاً لها من أجل الآخرة؛ فضلاً عن ان المال يعين أيضاً على إقحام السلفيين في خضم معارك الآخرين وخوض الحروب الدينية والسياسية.

ولعلّ البعض يضيف الى نزعة الإستعلاء الديني والمالي، نزعة أخرى منبثّة في أعماق المشاعر السلفية المحلية (الوهابية) وهي النزعة القبلية التي هي بطبعها استعلائية عنصرية، الى حدّ جعل المتدين السلفي السعودي (سوبر جهادي) بنظر ذاته وبنظر الآخرين إليه، خاصة وأن ميادين الجهاد في مجملها دارت في مناطق ودول فقيرة علماً ومالاً.

لقد وفّرت الإتصالات الحديثة للسلفي السعودي وسائل تطلعه على ما يجري في الكون، وما يحلّ بإخوانه المسلمين في مناطق العالم الأخرى، وهو إذ يستخدم وسائل الإتصال الحديثة فإنه إنما يفعل في ظرف قد بدأ فيه للتوّ يطلّ على السياسة المحلية والدولية، والتي لم يكن يأبه بها سابقاً، ولا يهمّه من شأنها شيء. الإطلالة المتأخرة كانت مشفوعة بمشاعر متفجرة ضد الأوضاع المحلية والعربية والإسلامية، كما أنها مشفوعة بتبسيط غريب في تحليل الأحداث وتصنيف الأعداء وطرق مواجهتهم، خاصة وأن المفتين السلفيين في السياسة يتحدثون بلغة اليقينيات بسذاجة مفرطة، وهم يعتقدون بأنهم قد امتلكوا الحقيقة السياسية كما الحقيقة الدينية التطهرية، وصارت رؤاهم وفتاواهم كما لو كانت أحكاماً دينية، وقد ترتب على تحليلاتهم الساذجة بالفعل أحكام دينية في غاية الخطورة.

لقد كان للسلفي السعودي قصب السبق في الحرب في أفغانستان، وفي الشيشان، واليوم في العراق، وقد كانت طلائع السعوديين تملأ الخافقين، فاشتهرت أسماء الى جانب بن لادن في أفغانستان، خطاب والغامدي في الشيشان، ولاتزال أسماء (الشهداء!) السعوديين وصورهم تترى هذه الأيام من العراق، وتقرأ على شاشات الإنترنت، ومعظمهم قضوا نحبهم في عمليات انتحارية يقصر عن القيام بها العراقيون أنفسهم. في حين تجد سلفيو الخارج أول المبادرين لطلب الشهادة بتفجير النفس بين الأبرياء الروافض، وقتل المرتدين من الشرطة والحرس الوطني العراقي!

ودائرة جهاد السلفيين في المملكة غير محدودة، بالبوسنة والصومال والجزائر والمغرب فضلاً عن الشيشان والعراق وافغانستان، بل أن أصوات بعضهم، وصدى فكرهم يتردد في الفلبين (مورو) واندونيسيا وتايلاند (فطاني) و كشمير وغيرها. وبإطلالة سريعة على مواقع النت السعودية خاصة موقع الساحات، فإن المراقب سيسمع من الأنّات والآلام والنياح على مصاب المسلمين في تلك الأصقاع ما لا يخطر له على بال. والتساؤل يظل يلاحق المتابع لتلك المواقع: ماذا نفعل لإخواننا؟ كيف نجاهد؟ كيف نعين بالمال؟ إضافة الى المطالبات المستمرة بالدعاء لهم بالنصرة (أضعف الإيمان) وتناقل أخبارهم وانتصاراتهم مضاعفة ألف مرّة، يرافقها الكثير من (التأييد الإلهي) و (الكرامات) على نحو ما رأينا نظيره أيام الجهاد الأفغاني الخالية.

وباختصار شديد.. فإن السلفي السعودي ـ الوهابي، حامل رسالة، يرى أنه مسؤول عن إيصالها الى كل الكون. كانت هذه الرسالة دينية/ مذهبية، سلمية من جهة عدم الفرض بالسلاح، ومتطرفة كونها مزّقت كثيراً من الجاليات والجماعات الإسلامية؛ كما يجري التبليغ بها بموارد مالية ضخمة، بعضها يأتي من الدولة السعودية نفسها، والبعض الآخر من التبرعات والزكوات. وبعد أن تم تسييس المجتمع السلفي، أصبحت الرسالة الدينية مقرونة بحمل السلاح والجهاد، فالفكرة قد لا يكون لها ألقها إن لم تُحمل على قاطرة مسلّحة، فالمجاهد السلفي يقدّم ـ بنظر البعض ـ قيمة عالية لفكرته وهو يدكّ الولايات المتحدة بالطائرة، وبتفجير نفسه في رتل أمريكي في العراق. ولهذا، قيل بأن السلفية ـ الوهابية حققت إنجازاً في المحيط الإسلامي المحبط بعيد (غزوتي مانهاتن وواشنطن!) وعلى وقع ذلك الإنجاز، تدافعت قوافل الجهاديين السلفيين الى العراق مدفوعة بزخم كبير كيما يسجّل المنتمون الجدد أسماءهم في سجل الخالدين. ولعلّ ما سمي بـ (الخلايا النائمة) للقاعدة في كثير من دول العالم، بما فيها دول أوروبية، وبغض النظر عن المبالغات، لا تعدو تفعيلاً لأفراد انتموا الى التيار السلفي حديثاً، استهوتهم المغامرة الـ (بن لادنية) فصار كل فعل ينسب الى القاعدة تيمّناً بما ينطوي عليه من تأييد ورغبة لأن يكونوا أعضاءً فيها ومساهمين في نشاطاتها.

وفي المحصلة، فإن المنتج الجهادي الوهابي هذا، هو حصيلة لثقافة وظروف محليّة سياسية واقتصادية بالدرجة الأساس، وما نشهده من نزعة لدى التيار السلفي لاعتبار نفسه مسؤولاً عن إصلاح الكون ـ بطريقته ـ وأن يتدخل في شؤون الآخرين بالسلاح والمال وغيرهما، إنما تنعكس سلبياته على نظام الحكم نفسه، وعلى الدولة، كما على المؤسسة الدينية الرسمية.

إن إصلاح المؤسسة الدينية الرسمية، كما إصلاح نظام الحكم، يوفران البيئة المناسبة لإشغال السلفيين والسعوديين عموماً كما الحكومة ذاتها بأنفسهم، وبتعديل اوضاعهم التي لا يزعم أحدٌ أنها جيدة. فهل فرغ هؤلاء من إصلاح أنفسهم لكي يصلحوا العالم؟ أم أن دعوة إصلاح العالم إنما جاءت بسبب فشل الإصلاح الداخلي؟!