قصتي مع الانتخابات

 

حمزة قبلان المزيني

 

في أجواء الانتخابات البلدية التي تظللنا أفياؤها في هذه الأيام بعد انقطاع طويل لعملية الانتخابات وثقافتها وأجوائها يطيب لي استذكار واحدة من التجارب الانتخابية التي مررت بها قبل سنوات.

فقد كان تولي المناصب الإدارية الأكاديمية في الجامعات يجيء نتيجة لعلمية طويلة من الترشيحات والانتخابات. وكانت الكليات والأقسام تعيش أجواء انتخابية ساخنة لأشهر حتى تنتهي هذه العملية: وكانت العملية تبدأ بترشيح واحد أو أكثر من أعضاء هيئة التدريس لأحد هذه المناصب ثم يأخذ كل واحد من المرشحين، هو ومناصروه، في تسويقه والكشف عن مواهبه وكفاءته ووعوده بتطوير القسم أو الكلية. وفي اليوم المحدد يلتئم الجمع وينتخب الناخبون بصورة سرية ويعلن الفائز من المرشحين، ثم يعود الهدوء المعهود إلى القسم أو الكلية وكأن شيئا لم يكن. وبعد ذلك يرفع اسم الفائز إلى مدير الجامعة الذي يصدر قراره (بالموافقة في غالب الأحوال) على تولي الفائزَ المنصبَ المعين.

وظل هذا التقليد متبعا حتى 1413هـ ثم ألغي وصار التعيين الذي يصدره مدير الجامعة لمن يراه لتوليهما الوسيلةَ البديلة؛ ويحدث هذا التعيين بطريقة سرية لا يعلم أعضاء هيئة التدريس عنها شيئا حتى يفاجؤوا بإعلان اسم المعيَّن. وقد ظل أستاذنا الدكتور منصور الحازمي رئيسا لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك سعود لأربع فترات، ولم يكن أحد ينافسه لمكانته العلمية وخبراته الأكاديمية والإدارية الطويلة ، ولأن معظم أعضاء التدريس السعوديين كانوا من طلابه يوما ما، وهو ما جعلهم يؤثرونه بهذا المنصب ويتحرجون من مزاحمته عليه.

إلا أن الدكتور الحازمي أعلن قبل نهاية الفترة الرابعة من رئاسته للقسم عن عزمه على عدم الترشُّح لهذا العمل، وطلب من القسم أن يختار بديلا عنه. وكان القسم في تلك الفترة، إبان صعود ما يسمى بـ "الصحوة الإسلامية"، يكاد يكون منقسما إلى تيارين محدَّدي المعالم؛ يغلب على أحدهما الميل إلى التيار الصحوي (إن صح التعبير) ويميل الآخر إلى التيار المعتدل الذي تتميز به جامعة الملك سعود على مدى تاريخها.

وقد رشح التيار (الصحوي) والذين يتماهون معه أحد الزملاء ليكون رئيسا للقسم، أما التيار (المعتدل) فرشحني. وكان الزميل المنافس معتدلا، وإن انتمى إلى التيار الصحوي، ويتمتع بخبرات طويلة في العمل الإداري، وكان على علاقة ممتازة بالزملاء جميعا، وكان كفؤا لأن يشغل ذلك المنصب. إلا أن التيار الذي رشحني كان يريد شخصا لا ينتمي للتيار الذي يمثله ذلك الزميل تخوفا من عواقب ذلك على العملية التعليمية في القسم والجو العام فيه.

وبعد إعلان الترشيح هبت على القسم رياح المنافسة الشديدة وبدأت المؤتمرات المصغرة (أو هي المؤامرات؟!) وبدأ التياران يسوِّقان مرشحَيهما بقوة ويجمعان الأصوات لهما. واستمر الأمر لأكثر من ثلاثة أسابيع، وكنتَ تحس بهذا التنافس ماثلا في كل لحظة. وفي اجتماع القسم الذي سبق الإعلان بوقت كاف أنه سيكون موعدا لانتخاب رئيس للقسم جرت عملية الانتخاب بطريقة سرية، وأعلنت النتيجة مباشرة. وكانت محصلتها أنني فزت على الزميل المنافس بصوتين اثنين. وبعد ذلك مباشرة انهالت على الفائز التبريكات وانطلقت التعليقات الخفيفة المتفائلة والمتخوفة. وكان من أول المبارِكين الزميل المنافس. ثم انتهت العملية وانقشع غبار المعركة الانتخابية الذي كان يلبد جو القسم وكأن شيئا لم يحدث.

وبعد أن صدر قرار مدير الجامعة بإمضاء نتيجة الانتخاب بدأت عملي رئيسا للقسم؛ وكان الزميل المنافس من أول المتعاونين، بل كان أكثر الناصحين ومن أقرب من ألجأ إليهم لطلب المشورة. ومضت السنتان سريعا، وساد جو من الوئام بين الزملاء وازدهر النشاط العلمي والثقافي، ومنه استضافة القسم لبعض الأساتذة الزائرين من خارج المملكة، وبدئه بمراجعة الخطط الدراسية، وغير ذلك من مظاهر الحيوية. وكنت أجتهد في عملي كثيرا وأخطئ كثيرا؛ لكني كنت أحس بمستوى عال من الثقة بالنفس نتيجة لما كنت أحسه من تعاون الزملاء وغضهم النظر عن كثير من الأخطاء التي أرتكبها نتيجة لبعض الاجتهادات الجريئة. ولما انقضت السنتان جمعت أوراقي وذهبت إلى مكتبي ولم أدخل مكتب رئيس القسم لأيام. ووافق ذلك تغير الأنظمة من انتخاب رؤساء الأقسام وعمداء الكليات إلى النظام الحالي الذي يعين بموجبه من يختارهم مدير الجامعة لهذين المنصبين. لذلك كنت آخر الرؤساء المنتخبين لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك سعود، ومن آخر رؤساء الأقسام في الجامعة الذين جاؤوا عن طريق انتخاب زملائهم لهم.

وفوجئت بعد أيام بخطاب من مدير الجامعة يكلفني بالقيام بعمل رئيس القسم، ثم جاء خطاب آخر ينص على تعييني رئيسا له لفترة ثانية. وبعد انقضاء أيام العسل الأولى من الفترة التعيينية أخذ جو القسم في التغير قليلا قليلا: فقد بدأ بعض الزملاء في التعبير العلني عن عدم رضاهم عن بعض ما أعمل، وأخذت الشكاوى تتزايد كما وكيفا حتى وصلت في الأشهر الستة الأخيرة إلى مستوى لم يكن مقبولا أبدا. ثم بدأت التحزبات ووصل الأمر إلى تقديم بعض الزملاء شكاوى إلى مدير الجامعة تتضمن بعض الاعتراضات على عملي، وكان بعضهم يمتنع عن دخول مكتب رئيس القسم لتوقيع نتائج الامتحانات كما تنص اللوائح. وكنت في تلك الفترة أعد الأيام يوما يوما وأحلم باليوم الذي أخرج فيه من مكتب رئيس القسم لأتمتع بالحرية التي كنت أتمتع بها قبل تسلمي ذلك العمل، كما كنت أحلم باستعادة صداقة بعض زملائي التي فقدتها في هاتين السنتين. ومضت الأشهر الأخيرة ثقيلة لا تكاد تتزحزح حتى فُرجت أخيرا بنهاية الفترة المعهودة، وكنت لعدد من الأيام بعدها لا أكاد أصدق أنني انعتقت من تلك الرئاسة!

ومن المطمئن أنني استعدت سريعا، بعد انتهاء فترة رئاسة القسم التعيينية، صداقة أولئك الزملاء وعدنا جميعا إلى جو الصفاء والمودة الذي كنا عليه. وأعتقد اعتقادا جازما أن هؤلاء الزملاء نسوا ما كان يحدث كما أنني أؤكد أنني نسيته ولم يبق منه إلا بعض الذكريات الباهتة. وليس المقصود من استذكار تلك الأحداث التلذذ بسردها والتبسم عند تذكُّر مستوى الحماس الذي كنت وزملائي نعمل به ونتعامل في تلك الفترة. أما المقصود فهو التفكر في المقارنة بين تولي منصب معين نتيجة لعملية اختيارية كالانتخابات وتوليها بصورة مفروضة نتيجة للتعيين.

لقد كنت أشعر في فترة الرئاسة الأولى بأنني وإن أخطأت فإن زملائي سيبادرون إلى التماس العذر لي لأنهم شركاء في خطئي بالتبعية: أي إنهم لو لم يختاروني لما وقع ذلك الخطأ. وكنت لذلك أشعر بمستوى من الحماس للعمل من غير تلفت لعيون الرقباء والمترصدين. وكان الزملاء يعملون بجد لإنجاح عملي لأنهم يرون أني أنوب عنهم وأرجع إليهم. أما في الفترة الثانية فلا بد أن كثيرا من الزملاء لم يكونوا يشعرون بالتعاطف معي لأنهم ربما كانوا يحسون بأني مغتصِب لذلك المنصب بصورة ما، وأني لو لم أكن ذا حظوة عند مدير الجامعة لما عيِّنت، وأني لا أعِير ما يهتمون به أي عناية لأنني غني عن دعمهم ولا أدين لهم بشيء في توليه.

وتفتح هذه التجربة باب التأمل في طبيعة تولي عمل ما نتيجة لانتخابات تعبِّر عن درجة ما من رضا الذين يعملون تحت إدارة المنتخب لتولي العمل وبين توليه بطريقة مفروضة لا يستأمرون فيها ولا يملكون حق تغييره أو الإدلال عليه بشيء. ومصدر الرضا التقريبي للناس بمن يأتي باختيارهم أنهم يشعرون بأنه وإن كان اختيارا سيئا فإنه لن يدوم لفترة أطول من فترة محددة يعرفونها مسبقا؛ فباب الأمل بالخلاص منه مشرع بل متحقق. وهو تحت رقابتهم الدائمة ويمكن أن يعدِّلوا من تصرفاته وأن يشعروه بأنه إنما جاء برغبتهم ومصيره مربوط برضاهم عنه. أما المعيَّن فلا أحد يعرف متى ينزاح عن كواهلهم، وليس لأحد دالة عليه؛ وهو ما يؤدي إلى فقدهم حتى الأمل، وتظل صدورهم تنطوي على درجة من الضيق به وربما يتمادون إلى التنغيص عليه.

ولا أشك أن المعيَّن ـ وربما كنت كذلك في الفترة الثانية! ـ ليس بريئا من شكل من أشكال الدكتاتورية التي تترعرع في قلبه. فما دام أنه ليس عرضة لمحاسبة من يرأسهم فسيكون أكثر جرأة على أن يتخذ بعض الإجراءات التي يعرف أنها لا تحظى بموافقتهم. والدرس الذي يمكن أن يستفاد من مثل هاتين التجربتين أن الانتخابات من أنجح الوسائل لتقليل حجم غضب الناس وعدم رضاهم عمن يتولى تصريف مصالحهم اليومية. وهي وسيلة لإغناء الخبرات عن طريق التجديد الدائم لمن يديرون تلك الإدارات، وهي طريقة حكيمة مثلى لغرس فضيلة التواضع في القيادات، وتنمية حس المسؤولية والمحاسبة لدى الجميع.

(الوطن ـ 2/12/2004)

 

لا جذور ولا أجنحة

 

إيمان القويفلي

 

أليسَ غريباً أنهُ في البلادِ التي غالبُ سكّانها شبابٌ يافعون، يكونُ فـكرُ الكهول والعجائز هوَ الأطغى؛ بل الأوحَـد؟ أفكارُ العجائز لا عن الحياة فحسب، إنما أيضاً عن الشباب وكيف يجب أن يكونوا شباباً، وإلى أي درجة، ومتى. خمّن من الذي يعتنق هذه الأفكار العواجيزية؟ الجميع، حتى الشباب أنفسهم، على الأقل كواجهةٍ اصطناعية يواجهون بها الكِبار ويظهرون بها أمام الآخرين. في التلفزيون وفي التحقيقاتِ الصحافية توجد دائماً تلكَ الثيْـمة الوطنيّةُ المجيدة: شابٌ سعودي ينتقد "استهتار" الشباب ويرفضُ "سلوكياتهم الخاطئة"، ثمّ يبتسم للكاميرا أو لعين الرائي ابتسامة بلهاء. برافو، هكذا أتأكد دائماً أنني أقرأ صحيفة محلية.

لأنهُ عميقُ المعنى أن يعيش المرءُ حياةً ذات تفاصيل ووقائعَ لا يمكنهُ أن يُفسّرها منطقياً أو أن يُدافع عنها، يجب أن يُـسأل: لماذا لا يستطيعُ شابٌ - أو شابة - أن يُـواجه الآخرين ويشرحُ لهم مفهومه للهو والمُـتعة كما يعيشهما فعلاً في حياته؟ لماذا لا يُخبرُ عمّن وماذا يُحب ويكره؟ مَن يحترم ومَن يحتقر ولماذا؟ ولماذا لا يستطيعُ شابٌ - أو شابة - أن يصرّح برأيهِ بخصوص مُجتمعهِ وعائلته والقوانين التي تحكمهما؟

الفكر الأبوي يجيب على هذه الأسئلة بالإيحاء دائماً وبكل طريقة ممكنة، إن الشباب يكذبون ولا يعترفون بما هوَ موجودٌ في رؤوسهم، لأن جُـل ما في رؤوسهم فاسدٌ مشين وداخل في نطاق (العيب). هذا الموقف لا يتبناه فقط الجيل الأكبر ضد الجيل الأصغر، الآباء ضد الأبناء، بل يتبناه الشباب، الجيل الأصغر، الأبناء؛ ضدّ أنفسهم، ولهذا يمارسون ثقافتهم دون أن يعترفوا بها، أو يهتموا بفهم منطقها، أو تأسيسهِ والدفاع عنه. هكذا تصبح ثقافة الشباب كلها ثقافة (خارجية)، طارئة، وافدة، مستهجنة، بذيئة، عابثة، ويجب أن تستبقى وتعاش دائماً في الظلام، هذه التي هي ثقافة أكثر من 60% من سكان البلاد.

أصحيحٌ أن جُلّ ما في رؤوسنا (فاسدٌ مُـشينٌ ومعيب)؟ إذا كان كذلك فإنني أتساءل: من أينَ جئنا بـه؟ لدى الآباء حفظهم الله دائماً جوابٌ واحدٌ على هذا السؤال: (من الخارج). عندما تعلق الأمرُ بالإرهاب كان هذا هوَ الجواب، وعندما صارَ السؤال عن الأفلام الفضائحية (المحلية) التي تقفز من هاتفٍ جوّالٍ إلى آخر ومن شرق البلاد إلى غربها، صار هذا هو الجواب، وعندما بقيَ السؤال عن الرسائل القصيرة إلى الشريط التلفزيوني.. بقيَ هذا هوَ الجواب. المقدسي، أفغانستان، شارون، الفضائيات، الفيديو كليب، الغزو الفكري، السياحة، أمريكا، الدول القريبة، الدول البعيدة، كوكب المرّيخ.. أي شيء.. أي أحد، لكن لسنا نحن، لسنا نحن أبداً. الآباء مغرمون بالنفي: نفي المسؤولية عن أنفسهم، ونفي ما لا يروقهم من الواقع والضوء... إلى الظلام، كما هي حال ثقافة الشباب المنفية بكلا النفيين.

واحدةٌ من طُرقِ النفي كما أحسبها هيَ سحق وجود الشباب إلى حدهِ الأدنى، متمثلاً في الكلام عن حاجاتهم الأوّلية، التعليم والوظيفة، والتركيز على الشباب المتراوحة أعمارهم بين 15 و25 لأن هؤلاء مشغولون بتلك الحاجات الأولية. رغم أن من يتخطى الخامسة والعشرين يبقى شاباً، ومن يتخطى الثلاثين وما بعدها بسنواتٍ يبقى شاباً، ومن يحصل على التعليم والوظيفة يبقى شاباً قلقاً وتبقى لهُ حاجات لم تستوفَ منذ زمنِ اليفاعة وأبكـَر، لكن لا يـعترف بها ولا بذنبِ غيابها أحد. أوَ ليست القدوة الأخلاقية الجيدة حاجة أساسية من حاجاتِ الإنسان، يتوجب على الآباء، الجيل الأكبر، أن يقدّمها في ذاته وأن يساهم بحقنها في أقنيَةِ المجتمع وعروقه؟ أوَ ليستِ الأنظمة القانونية والمؤسسات الراسخة، الحامية حقوق الناس وإنسانيتهم، حاجة أساسية من حاجاتِ الإنسان؟ أوَ ليسَت الفرصة الكاملة لأيّ إنسانٍ من أجل أن يجرّب قـدرتهُ على الصعود والارتقاء الاجتماعي والعلمي والمهني والسياسي قدرَ طاقتهِ وموهبته، حاجة أساسية من حاجاتِ الإنسان؟

ورغمَ أن جيلَ الآباء غيرَ ميّـالٍ إلى مُساءلةِ منجزهِ الذاتي، ومُحاسبة نفسهِ عمّا آلت إليهِ الحال الآن، أو إعلان مسؤوليته عنها، إلا أنه - بتناقضٍ بديع! - لا يزالُ مستمسكاً... بل مُتشبثاً بأفكارهِ عن أهمية احترام الموروث، والتشبث بالتراث، والعراقة والتقاليد، غارفاً من ماءِ هذهِ القِـيَم ما يحتاجهُ من شرعنةٍ لمكانتهِ الأبويةِ بصلاحياتها وثقلها في المجتمع، مهرقاً باقيهِ على التراب. وإلى التراب تذهب المسؤولية، والمحاسبة، والأسئلة.

في فيلمٍ أمريكي سخيف سمعتُ مرةً أباً يقول لابنه: (على الآباءِ أن يمنحوا أبناءهم شيئين: الجذور والأجنحة). وفي المدينة العصرية التي بناها آباؤنا وحددوا شكلها ونظامها وقوانينها يحوم الأبناء في فراغٍ أبلهٍ مثلَ أفراخِ حمامةٍ تائهة. لا جذور ولا أجنحة، وعبء زمنهم عليهم، وحسنته لغيرهم. يقول واحدهم: أتراني أصيب أم أخطئ اليوم؟

(الوطن ـ 2/12/2004)