المشاركة السياسية

 

إعداد: عبد الله الراشد

  

علاقات السيد والزبون

الاستزبان هو شكل من الانخراط السياسي الذي يختلف عن المشاركة الطوعية في الديمقراطيات الليبرالية والرتابة العسكرية في الدول الشيوعية. وبالرغم من أن علاقات السيد ـ الزبون موجودة في كافة النظم السياسية فإن العالم النامي يقدّم الادلة الكاملة على مثل هذه العلاقات. في الواقع، إن هذه العلاقات تمثل في كثير من البلدان النامية الاداة الرئيسية لادخال عامة الناس في حلبة السياسة الرسمية.

والسؤال هنا: ماهي بالضبط علاقات السيد ـ الزبون؟ إنها التراتبيات غير الرسمية التي تتغذى على تبادل بين المقام العالي (السيد) وعدد كبير في الغالب من (الزبائن) من المقام المنخفض. ان التعبير الدارج حول علاقات (الرجل الكبير/الولد الصغير) تعكس طبيعة التفاعل او التعاطي بينهما. وبفعل انعدام المصادر، فإن الزبائن يتحلقون السيد من أجل الحماية والأمن. إن السادة السياسيين يسيطرون على أصوات الزبائن ويقنعونهم بحضور الاجتماعات، والانضمام للمؤسسات أو اقتفاء، بسهولة، سيدهم مراعاة لمشاعره (وهذا يفسّر لماذا التجهيزات السياسية ممتدة ومتشعبة). فعلى سبيل المثال، في سيريلانكا فإن السادة بحكم نفوذهم في مصادر الدولة يقررون بدرجة كبيرة كيف يصّوت عامة الناس (أنظر: Jayannth 1991). السادة أو الرعاة هم المؤجّرون، الموظِّفون، الزعماء السياسيون، أو في الغالب القادة الاثنيون. في حقيقة الأمر، إن المفهوم الموارب لجماعة إثنية ما قد تُفهم جزئياً باعتبارها شبكة كبيرة من السيد ـ الزبون من أجل توزيع الغنائم.

والاستزبان مصطلح يستعمل لتوصيف سياسة ما قائمة بصورة جوهرية على علاقات السيد ـ الزبون. وهذه العلاقات غالباً ما تكون تقليدية وشخصية، كما في حال الحماية التي يوفّرها الملاّك للمستأجرين في البلدان النامية. ولكن يمكن لهذه العلاقات أن تكون أكثر ذرائعية أوعملية، كما في حال المصادر التي يوظّفها السياسيون في المدن الاميركية لتزويد المهاجرين الجدد في مقابل أصواتهم. وحيث يكون الاستتزبان رائجاً، فإنه قد يمتد في الثقافة السياسية، مؤكّداً عدم المساواة الذي منه ينبع الاستزبان (أنظر: Clapham, 1982).

وحيث تسود علاقات السيد ـ الزبون، فإن السياسة تصبح شخصية وفئوية. فالرجال الكبار، مثل وزراء الحكومة وزعماء القبائل، يسيطرون على معظم المصادر ويحظون بأغلب الاتباع. في نظام الرعاية المتطور بمستويات متعددة، فإن الرئيس هو ببساطة الرجل الأكبر، وهو مرغم بحكم المنطق السياسي بأن يقوم بتوزيع أغلب الغنائم من اجل ارضاء أتباعه والمحافظة على وضعه المتزعزع باعتباره (أعلى العليين).

يقول بايارت (1993، ص 226): (أن السرقات المتواصلة والهائلة من أموال الدولة من قبل شبكات متنافسة، تجعل من الاهمية الكبيرة بمكان بالنسبة لرئيس الجمهورية كيما يثري نفسه من أجل تأكيد سلطته على هذه الشبكات). إن النجاح السياسي يجلب المزيد من الاتباع الذين يتطلعون لمزيد من الغنائم. وحيث أن السادة او الرعاة يتنافسون على توزيع الغنائم، فإن التصعيد هو قارّ وفي الوقت نفسه نتيجة، وفي بعض الحالات القصوى تصبح الحكومة ببساطة مفلسة، أو على الأٌقل تلجأ الى طباعة المزيد من النقود. إن ثمة سبباً واحداً يدفع الرؤساء الأفارقة لقبول البرامج المتشددة والصارمة التي تفرضها المنظمات الدولية في الثمانينات كونها تساعد على كبح الانفاق على الوزارات والتي كانت قد أدت الى فوضى في نظام الرعاية.

إن أفريقيا بخاصة تختزن أمثلة حول سياسة الرعاية، وأن السنغال تصلح كيما تساق كمنهج مدرسي (أنظر: Bayart, 1993, p.211). فهناك، عبارة (كي تصنع السياسة) إنما تعني فحسب أن ينذر الفرد نفسه لقائد الجماعة او الطائفة والعمل من أجله. إن الثقافة الوطنية تتكون من نزاع يبن قادة عشيرتين (كما هو حال الطوائف السنغالية المعروفة)، والتي تعكس النزعة المزدوجة التي هي شائعة في السياسة الطائفية.

ان الشراكة عبر الرعاية هي جهاز يربط النخبة بالجمهور، والمركز بالأطراف في مجتمعات متباينة وغير متساوية. إن شبكات الرعاية تعمل كغراء سياسي يربط (أعلى العليين) بـ (أسفل السافلين)، عبر العضوية الطائفية أو الفرقية. إن شبكات كهذه تتعالى، دون دحض، على عدم المساوة في الثروة، والمقام والسلطة. ولذلك، فإن عدم المساواة يعتبر المخصَّب الذي يساهم في ترعرع علاقات السيد ـ الزبون. فالفقر والادقاع يعني أن الفقراء ضعفاء وبحاجة الى حماية، وأن عدم المساواة أو التفاوت يعني أن الاغنياء يملكون المصادر لتقديمها في مقابل التعهد السياسي.

 

العالم النامي: إتجاهات الشراكة  

كما في الدول الشيوعية، فإن المشاركة الشعبية في السياسة لها تاريخ متفاوت في العالم النامي. في أغلب شبه الصحراء الافريقية فإن صراع ما بعد الحرب من أجل الاستقلال قد خلق حركات جماهيرية قائمة على روح المشاركة. إن الحزب الوطني كان يوفّر الآلية التي عبرها يمكن للشعب أن يشارك في السياسة. على أية حال، من الناحية العملية، فإن هذا الانخراط كان في الغالب محدوداً، وفي كل الاحوال فإن الثقافة التعبوية وهياكل الأحزاب الاتحادية قد تعفّنت على الفور بعد الاستقلال. في العديد من البلدان الافريقية فإن المشاركة ذبلت. ويصف كاشفير (Kashfir, 1976) هذه الحالة بعدم المشاركة (departicipation) وتقلّص المضمار السياسي. على سبيل المثال، هناك فقط واحد من بين أربعة ناخبين يشارك في الانتخابات العامة في نيجيريا عام 1983 قبيل الانقلاب العسكري. إن الانظمة العسكرية والتي غالباً ما تستبدل حركات الاستقلال التعبوية كانت مرتابة حيال المشاركة الشعبية، وفي الغالب لا تشعر بالضيق من الانشطة الاعتراضية الظاهرية والفضفاضة وهكذا الانجرافات العفوية من الدعم والتي كانت خاصّية متميزة في أنظمة الحكم الشيوعية.

وإستمر الحال هذا حتى نهاية الثمانينات  حيث أن الدمقرطة، ومعها الاشكال الأكثر أصالة للمشاركة، قد عادت الى شبه الصحراء الافريقية. إن الحركات الداعمة للديمقراطية في معظم الدول الافريقية في نهاية الثمانينات مثّلت قادماً ملحوظاً ومعلماً مشهوداً جاءت سوية مع المشاركة السياسية من قبل طيف من الفئات الاجتماعية (أنظر: Wiseman, 1995, p.5). من أبرز هذه الفئات هم قادة الكنائس، والاتحادات النقابية للمحامين، والصحافيين، والطلاب، والطاقم الطبي. لقد حافظت هذه الهيئات على مسافة احترازية من الدولة، وشكّلت بصيص المجتمع المدني الذي قامت عليه الديمقراطية الليبرالية المستقرة.

وفي أميركا اللاتينية، فإن المشاركة السياسية الجماهيرية في الاضرابات او المظاهرات كانت في الغالب المفتاح الذي يشرع الباب المؤدي الى الاصلاح السياسي، وقد كانت بنين هي الرائدة في هذا الصعيد. فهناك، قام الطلبة بالتظاهر خارج فصولهم في الجامعة الوطنية عام 1989 مطالبين بدفع تعويضات عن زيادة الرسوم الجامعية، وفي وقت لاحق من نفس السنة هدد موظفو الخدمة المدنية والمدّرسون بالقيام بإضراب عام بسبب عدم دفع الرواتب. لقد دشّنت هذه الاحتجاجات مرحلة اصلاح بلغت ذورتها في الهزيمة الانتخابية للرئيس كيريكو (Kerekou) عام 1991 (أنظر: Barton and Van de Walle, 1997, p.1). وفيما قادت بنين المبادرة، فإن دولاً أفريقيا أخرى تبعتها في هذا الطريق. في ملاوي، فإن تأثيرات الاضراب عام 1992 في مصنع لونرو تموّجت عبر البلاد. فقد توقف موظفو الخدمة المدنية عن العمل، وخرج المتظاهرون الى الشوارع، وأحرقوا مكاتب الحزب الحاكم وتم نهب المتاجر الكبيرة المملوكة من قبل الدولة. وكما يقول فينتر (Venter 1995, p.159): (إن هذه الاضرابات والمظاهرات شكّلت معلم طريق للبلاد. وفي نهاية المطاف، فإن الناس عثروا على صوت لهم، وبإمكان المرء أن يشعر بأن العائق النفسي الرئيسي قد تقهقر بعيداً. وفي الحقيقة، فإن الصدع قد إتسع في الصرح الصلب للنظام المالاوي، وان حركة التغيير أصبحت غير قابلة للارتداد).

إن الدول النامية التي حققت الاستقلال في القرن التاسع عشر (وبصورة رئيسية في أميركا اللاتينية) قد إقتفت تاريخ المشاركة المتباينة. إن المشاركة الشعبية كانت دائماً مطلباً، ولكن حتى وقت قريب كانت نادراً ما حققت إصلاحاً مستقراً. فالتنمية الاقتصادية، التي تطوّرت بصورة عامة في أميركا اللاتينية بدرجة أكبر منها في أفريقيا، أنتجت طبقة وسطى حضرية وبروليتاريا. ولكن هاتين الطبقتين طالبت بالدخول في النظام السياسي، وهذه المطالب شجّعت رد فعل متعجرف من قبل النخب الاورستقراطية المحافظة في أميركا اللاتينية. وباستثناء كوستاريكا وفينزويلا، والتي كانت الى حد ما مستقر طيلة فترة ما بعد الحرب، فإن النتيجة كانت عدم الاستقرار السياسي.

إن الحكومات العسكرية والاقلية المدنية تصادمت، وفي بعض الاحيان فسحت المجال، مع الحركات الشعبوية من الطبقات العاملة والوسطى المنخفضة. وعلى أية حال، ففي الثمانينات، فإن جنرالات أميركا الجنوبية دخلوا في مرحلة إنحسار، وأن الأنظمة المدنية القائمة على المشاركة الطوعية قد تأسست في أرجاء أميركا اللاتينية. وبحلول عام 1990، شهدت بوليفيا ثلاث تحوّلات منظّمة في السلطة بين الرؤوساء المدنيين. إن هذه الانظمة الجديدة قد تأسست على أشكال مستقرة بصورة أكبر من المشاركة الشعبية بالمقارنة مع الموجات السابقة والمبكرة من الشعبوية، والتي دفعت جورج بوش للتنبوء عام 1990 بأن (عهد الديكتاتورية في أميركا اللاتينية قد ولّى وأن يومه قد انقضى). وفي حال إستمرت الاقتصاديات المقوّمة في النمو، وأن ثمار الازدهار بلغت حداً يتجاوز أذرع الاثرياء، فإن التنبوء ـ أي تنبوء الرئيس بوش ـ له ما يبرره.

يبقى، أنه في كل من اميركا اللاتينية وافريقيا فإن من المحتمل ان يكون تطور المجتمع المدني،  بالمشاركة الطوعية الواسعة، أن يكون عملية بطيئة. في أميركا الجنوبية، فإن التفاوت الاقتصادي وتقليد الرجل القوي (سواء في الحكومة أو في الريف) ساعدت على المحافظة على علاقات السيد ـ الزبون حتى في حقبة المساواة السياسية الشكلية. وكما في الدول ما بعد الشيوعية، فإن  ثمة تقليداً ما من النزوع المناهض لهيمنة السياسة ممثلة في الحركات الاجتماعية الجديدة. وقد انبثقت الاخيرة من الصراع كي تعيش تحت حكم تسلطي وحشي غالباً، ولذلك فإن هذه الجماعات تتطلع كي تكون خارج الدولة بدلاً من التوجّه للانشغال معها. في أفريقيا، تكمن صعوبة تعميق المشاركة الطوعية في المشكلة الأصلية للفقر والتي ضيّقت من آفاق القضايا المتعلقة بالبقاء.

إن التعليم المحدود، وبالذات الأميّة، يعتبر عاملاً سلبياً للمشاركة الطوعية. وأكثر من ذلك، في الدول الافريقية الصغيرة فإن للحكومة الوطنية ذاتها وظيفة محدودة واختراقاً ضعيفاً خارج العاصمة. إن الاعلام الوطني بالكاد يبقى بحيث أن حتى المشاركة السالبة عبر متابعة الاخبار السياسية يعتبر غير عملي. إن مثل هذه المشاركة كما تظهر، على الأقل خارج اطار التصويت في الانتخابات العرضية، من المحتمل ان تكون موجّهة للسياسة غير الرسمية مثل الشبكات الاثنية. إن هذه العوامل مجتمعة تفيد بأن المشاركة الطوعية في الديمقراطيات الجديدة في أميركا اللاتينية وافريقيا من غير المحتمل أن تلامس المستويات غير المقررة والمطلوبة في الديمقراطيات الراسخة. فالمشاركة ستفشل في تجسير الفجوة بين السياسة الوطنية وأغلبية السكان، وعليه ستقوّي من نموذج الديمقراطية الأولية (semi-democracy).

في كثير من أنظمة شرق آسيا أيضاً فإن المشاركة تنزع الى ان تكون محكومة وخاضعة للمراقبة من قبل حكومات ديمقراطية جديدة، والتي غالباً ما تحكم عبر آلية الحزب الحاكم. إن (التسلّطية الناعمة) لا تخفّض المشاركة الشعبية الى  مجرد طقوس خاوية في الدولة الشيوعية ولكن لا تسمح للتعبير اللامحدود للأفكار المتعارضة كما وجدت في الولايات المتحدة، ولكن، فإن الهدف الوطني للتنمية الاقتصادية يعتبر مقدّساً الى أبعد حد.

إن التحديات التي تواجه هذا الهدف المشترك ـ من قبل الطلبة الراديكاليين، مثل حركات البيئة الناشئة والاتحادات التجارية  ـ قد يمكن إخمادها بشدة. وحيث أن القائد الوطني، والحزب المهيمن و/أو النخبة البيروقراطية هي الأداة لتطبيق الرؤية الوطنية، فإن أي تهديد للماسكين بزمام السلطة يتم التعامل معه بشدة. على أية حال، فإن هذا النمط المعمول به في بعض البلدان قد تم التخلي عنه تدريجياً لجهة المشاركة المفتوحة بدرجة أكبر. على سبيل المثال، حين أصبحت كوريا الجنوبية أكثر ثراءً، بدأت لذلك الطبقات المتعلمة والطبقة الوسطى في اختبار الحدود الضمنية للخطاب السياسي. ولكن تقاليد التباين بين كبار السن والحكّام، تم تعزيزها من قبل النخبة الحاكمة نفسها، ومازلت تعطي نكهة بدائية للمعارضة السياسية التي لم تظهر في الديمقراطيات الراسخة في الغرب.