العراق حافزاً
هاجس الطائفية والمكبوت السياسي
منيرة
عبد الرازق
إنه لأمر يدعو للسخرية والغرابة أن يكثر الاوصياء والوكلاء عن
الشعب العراقي منذ سقوط الصنم، وكأن العراق خلو من الرجال
والحكماء، فالذين عابوا على العراق خضوعه تحت شكل الوصاية
الاجنبي باتوا هم يمارسون شكلاً آخر من الوصاية لا يقل بشاعة، بل
نقلت بعض الجماعات المتطرفة عملياتها العسكرية الى داخل العراق
إحساساً موهوماً منها بأنها تلبي أمراً قصّر العراقيون عن القيام
به، وهذه كذبة العصر.
في
واقعنا السياسي العربي هناك نزعة شديدة للهروب من الواقع عن طريق
صناعة وهم المؤامرة، هذه العبقرية التي ما فتئت تسلخ الحقيقة
لتقذف بنا جميعاً خارج واقعنا المعاش. مغذيات الوهم مستمدة
ظاهراً من السجل التاريخي العربي والاسلامي المشحون بذاكرة
منشطرة تتأجج بداخلها صور الانقسامات الفرقية التي تشكّلت منذ
الفتنة الكبرى وانداحت في وقت لاحق في هيئة تمزقات عصبانية
تلفّعت تارة برداء مدرسي وتارة برداء تياري فكري وثالثة برداء
سياسي حزبي..
إن
قيام الدولة الحديثة كإطار متجاوز للتمزقات الاجتماعية والفكرية
كان يمكن له أن يسهم في كبح تمادي النزوعات الخاصة والانتماءات
الفرعية التي تستبطن تهديداً محتملاً للتماسك الداخلي وأيضاً
لفئات إجتماعية متنوعة أصبحت جزءا من الوحدة السكانية للدولة،
وكان يمكن أيضاً للمواطنة أن تكون جوهر الرابطة المشتركة بين
عموم أفراد الدولة.. لقد نجحت دول عديدة في تحقيق الانسجام
الداخلي بين شعوبها، عبر سياسات الادماج المتوازنة والعادلة
وإرساء قاعدة المشاركة الفاعلة للطيف الشعبي العام بكافة تنوعاته
الفكرية والسياسية والاثنية.
في
مقابل تلك الصورة النموذجية، عانت الدولة العربية الحديثة من
تركة التمزقات الفرقية المبعوثة نقمة للشعوب العربية
والاسلامية.. ومن المفارقات المثيرة للسخرية أن تتصاهر نزعتا
العلمنة والطائفية السياسية في الدولة العربية، بل أصبحت
الطائفية مكوّناً رئيسياً بل وضرورياً لاستمرار مشروع العلمنة..
إن اعادة انتاج المخزون الانقسامي الداخلي في الفعل السياسي
اليومي أصبح شرطاً تكوينياً لبقاء الدولة العربية واستقرارها،
وليس في ذلك غرابة، فالسلطة في العالم العربي فئوية وإحتكارية
وغير تمثيلية، ترى في لعبة المتناقضات أسلوباً أمثل لتعزيز
السلطة السياسية الشمولية.
إن
اللجوء الى تراث العرب والمسلمين السجالي وتوظيفه في لعب سياسية
لا تمت اليه بصلة ليس سوى ازدراء بالعقل وعبثاً بالضمير، لأننا
ندرك سلفاً بان النظام السياسي العربي من المحيط الى الخليج ليس
دينياً، وأن العامل الديني لم يكن سوى طلاءً خارجياً لنظام سياسي
غارق في علمانيته المشوّهة أيضاً.
هذه
المقدمة المقتضبة قد تعين على مقاربة واحدة من الموضوعات
الملتهبة، أعني موضوع الطائفية المذهبية التي نهبت إهتمام نخبة
واسعة من الباحثين والمثقفين وخاض في تفاصيلها أنصاف المتنورين
الاسلاميين.. ليس هناك ما يطلق المكبوت الداخلي من عقاله بأكثر
مما تفعله المنازع الطائفية المؤسسة على تراث سجالي مندّس في
ثنايا الضمير والكرامة والهوية بتشوهاتها الايديولوجية ونزعتها
السيكوباثية الانغلاقية والعدوانية والاقتلاعية. تحضير التاريخ
العبء في رواق السياسة اليومية يلبي بعضاً من أغراض السلطة
العربية، فهو يشغل المجتمع بتمزقاته الفكرية والاجتماعية ولكنه
بالتأكيد يدمّر أسس الدولة الوطنية القائمة على أساس توافق
الجماعات واندماجها في بنية النظام السياسي، وهو ما تم عملياً،
فحتى الآن لم يصدق على أي من الدول العربية مسمى الدولة الوطنية
لانعدام شروطها ومتطلباتها.
تصريحات ملك الاردن عبد الله الثاني حول الهلال الشيعي جاءت
محمّلة بعبء الارث التاريخي الانقسامي، وبصرف النظر عن تداعياتها
وتفسيراتها المتضاربة، تظل عاكساً أميناً لأزمة الدولة العربية
أولاً، وثانياً لواقع عربي مأزوم ينزع بشدة الى تجاهل الحقائق
القائمة التي تفرض نفسها بين الحين والآخر كلما سنحت الفرصة
للتعبير عن نفسها أو بروزها بفعل تطورات داخلية ودولية. إن هذه
التصريحات تدفع للتفريق بين رؤيتين متقابلتين: رؤية تقليدية
محثوثة بالصورة النمطية التاريخية المركّبة والمستمدة من إضبارة
مكتظة بوقائع الفتن وما تلاها من انشعابات سياسية ومذهبية
واجتماعية.. وهي تصريحات تجعل من الخارطة الجيوبوليتيكية
التاريخية مرجعية مركزية لتصورات حاضرة متهاجسة، كمن يسقط تجارب
الدول الامبراطورية القائمة في تاريخ العرب والمسلمين في أشكالها
الشمولية والبدائية على تجربة الدولة الحديثة. وهناك رؤية أخرى
واقعية تستهدف استنطاق الحقائق القائمة الآن على الارض بما تتطلب
تعاملاً جاداً وحيادياً، وتستجيب لشروط الدولة الوطنية، معزولة
عن مجريات التاريخ ومدوناته المؤججة للروح المثلومة، وهي رؤية
ترتقي فوق تشظيات المجتمعات العربية والاسلامية ووقف هدير
تداعياتها على حاضر يحاول ابناؤه اللحاق بركب العصر الذي يعيشون
فيه.
ما
ذكره الملك عبد الله (مع التذكير بتصريحات توضيحية لاحقة من قبل
الاردن) قد يُفهم سلبياً وقد يدرجه البعض ضمن قائمة عناوين
مماثلة ومتهاجسة مثل (القوس الرافضي) أو (القوس الشيعي) أو
(المثلث الشيعي) والتي صدرت عن أناس مسكونين بوهم المؤامرة،
والتي اكتست صبغة طائفية، ومع ذلك سنفيد من هذا العناوين بكل
ما فيها من جنوح من أجل التعاطي مع حقيقية بات من الضروري
التعامل معها.
إن
ما لا يغفر فيه النسيان حقيقة أن الشيعة شأن كثير من الجماعات
الاخرى هم جزء من واقع يومي ديمغرافي وجغرافي وسياسي وثقافي في
مناطق عديدة من العالم العربي وبالاخص في العراق ولبنان ودول
الخليج، وقد باتوا الآن في العراق القوة المستعاضة التي جرى
تهميشها كجزء من عقم النظام السياسي العربي العاجز عن التعامل مع
تنوعات الواقع والقائم على أساس فردانية الحكم والسياسة.
وبالتالي فإن الشيعة هم قوة سياسية يجب أن توضع في الميزان
السياسي الاقليمي والعربي والدولي، ومن الاقترافات الفادحة الآن
وفي ظل تحولات سياسية كبيرة في النظام الاقليمي والدولي أن يشهر
سلاح الطائفية في وجه العراق المثخن الآن، فحين يتعافى هذا الجسد
سيتذكر الشعب العراقي من عاضده ومن فتّ في عضده أيام محنته.
إن
الرؤية البراغماتية تتطلب ذهنية راشدة قادرة على الحساب الدقيق
لمصالح آجلة لا يمكن التفريط فيها، سيما في ظل الارادة الشعبية
العراقية العامة على محو الماضي وصناعة غد يقوم على الحرية
والديمقراطية والتعددية السياسية والمجتمع المدني. فالعراق الغد
سيكون أقوى من عراق الامس واليوم، لأنه وضع قدمه على سكة الخلاص
الحقيقي، حيث تتشكل الارادة الشعبية التي تقرر مصير العراق
تأسيساً على الحرية والديمقراطية والمشاركة الشعبية.
في
واقع الأمر، إن الاسفاف في مقاربة الموضوع الشيعي وبلغة ملتهبة
طائفياً ينزع رداء النظام السياسي العربي أولاً، لأنه يكشف عن
تعامل ينقصه الرشد وتنقصه الحكمة، وليس هذا الطرح سوى تعبيراً عن
انفصام الرؤية السياسية التي تنظر الى الواقع مفصولاً عن الحقائق
المندكة فيه. فهناك واقع متغير على المستويات المحلية والاقليمية
والدولية لا يمكن إنكاره، بل ومن شبه المستحيل إستبداله فضلاً عن
إيقافه، فملتقى الارادات الشعبية والدولية يدحض محاولات الحكومات
لتعطيل حركة التغيير والاصلاح. إن إعادة المعزوفة الطائفية
بلحنها الباعث على الضجر لا يحدث أكثر من ضجيج قد يلهي بعض
المسكونين بالطائفية ولكنه لا يؤخر أجل الاصلاح.
هناك تغيير ضروري في خارطة الشرق الاوسط، ويتطلب أول شي وفي
القلب من هذا التغيير إعادة إدماج الجماعات المهمّشة بما تشمل
الاغلبيات مثل الشيعة في العراق. إن اختلال وضع النظام السياسي
العربي يعود بدرجة أساسية للتناقص الحاد في درجة التمثيل وفي
اتساع الفجوة بين السلطة والمجتمع بفئاته المتنوعة. مما يلزم
التشديد عليه دائماً وفي ظل المتغيرات السياسية الراهنة، أن ثمة
حقائق جغرافية واجتماعية مازالت معزولة عن السياسة، وهذه واحدة
من أخطر تمظهرات أزمة النظام السياسي العربي، وما لم تأخذ سياسات
الانظمة العربية في إعتبارها تلك الحقائق فإن أسس الاستقرار
والمشروعية ستتآكل بصورة تلقائية وحتمية. إذ أن الاستقرار
والمشروعية منوطة بتحقق درجة عالية من التمثيل الشعبي والمكفولة
بالارادة العامة، فسياسات الادماج وحدها الخيار الاستراتيجي
الأمثل لتجسيم مفهوم الدولة الوطنية، والضامن الوحيد للبقاء
والتوافق الداخلي.
وأقول: يجب أن نواجه الحقائق على الارض كما هي دون افتعال أو
فبركة لعناوين أو وهم مؤامرة لا تحاك الا في وكر واحد وهو أذهان
المتوهمين وقوعها. وأبرز الحقائق سطوعاً هو التنوع المذهبي الذي
يعد، كما التنوع الثقافي والسياسي والقومي والاثني، حقيقة واقعة
في أغلب الاقطار العربية.. وإذا كان الشيعة مثّلوا أجلى تمظهرات
التنوع داخل العراق والخليج، فهناك تنوعات أخرى لم تتح لها
الفرصة للتعبير عن نفسها بسبب الاختلال العميق داخل النظام
السياسي العربي النابذ لكل أشكال التعددية، بل والمحارب لبروزها
على السطح وهذا ما يمكن تسميته بالتوافق المعمّى، حيث يتم اللجوء
الى وسائل القهر والقمع للايهام بوجود توافق داخلي بين المجتمع
والسلطة، ولكن كما رأينا في بلدان عديدة ان تراخي قبضة السلطة
يتلوه مباشرة انبعاث للتمزقات الداخلية، سيما في ظل فشل ذريع في
سياسات الادماج الشامل وبالاخص في البعد السياسي.
وبصراحة نقول إن النظام السياسي العربي وهكذا النظام السياسي
الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة والغرب عموماً مسؤول عن مشكلة
الشيعة ليس في العراق فحسب بل في كل قطر عربي يقطن الشيعة
بداخله.. فقد كان بامكان الانظمة السياسية في العراق ودول الخليج
أن تفيد من قوة الشيعة وطاقاتهم في عملية التنمية الداخلية عن
طريق ضمان حقوقهم المعترف بها دينياً وإنسانياً.. ولكن للاسف كان
التمييز سياسة متّبعة لدى كافة الانظمة العربية وكأنها لم تتفق
على شيء الا على إبقاء هذه الجماعة مهمّشة معزولة.. إنها مشكلة
قد يكون بعض الشيعة قد تورطوا في صناعتها الا أن مسؤولية الدول
بما في ذلك الولايات المتحدة التي شاركت كلاعب رئيسي في اللعبة
الطائفية تحت ذريعة مواجهة المد الثوري الايراني المهدد للمصالح
الحيوية الاميركية في المنطقة كانت كبيرة، فيما حُمِّل الشيعة
تبعات جرم لم يقترفوه سوى أنهم طالبوا بحقوق مدنية كانت الولايات
المتحدة أول من أقرّتها في دستورها.
فالطائفية السياسية التي انفجرت في مطلع الثمانينات كانت لأغرض
سياسية محضة لا دخل للشيعة او السنة فيها، بل هو صراع بين دول
تتقاتل على مصالح فجعلت من الطائفية سلاحاً سهلاً. إن الطائفية
تمارس فعلاً سياسياً مخزياً اليوم ولذلك فهي أسهل الاسلحة رواجاً
واستعمالاً وأكثر المعارك اشتعالاً وانتشاراً، إن أسهل ما يلوذ
به الطائفي ان ينسب خصمه الى العمالة، بل وأن يحمله هزائم الأمة
التي يحكمها شرفاء هذه الأمة وقدواتها!، ويكأن العمالة والهزيمة
ليست من سمات النظام السياسي العربي.
في
الواقع، إن التصريحات الصادرة من زوايا مختلفة في العالم العربي
هي رد فعل طائفي على التحولات السياسية في العراق، وكل ذلك لأن
الاغلبية التي جرى تقليلها سياسياً وثقافياً واقتصادياً استعادت
جزءا من حقها الطبيعي والواقعي وبوسائل مشروعة ومقرّة دولياً،
ونتمنى ان تقتفي باقي الانظمة العربية ذات الوسيلة كي يعتدل
الميزان، وكي ينال كل ذي حق حقه، بما في ذلك الحكام، عوضاً عن
التناوب على السلطة عن طريق الوراثة والقهر.
ويجب الاذعان لحقيقة كبرى باتت ماثلة الآن للجميع، أن الانتخابات
في العراق مثّلت أول بداية صحيحة حتى في ظل واقع دولي مختل، وهو
ما تخشى منه الدول العربية، فلأول مرة في التاريخ السياسي العربي
يشارك شعب في تقرير مستقبله وفي إختيار من يحكه، ولأول مرة أيضاً
يبنى الاختيار على الوعي والارادة الحرة وليس القهر والاكراه أو
الانتخابات البهلوانية ذات النسبة التسع والتسعينية.
|