الانتخابات البلدية خطوة متأخرة في عملية الاصلاح

تغيير معادلة السلطة ضمان الاستقرار والوحدة

 

لن يكون بمقدرونا الحديث عن أوجه شبه بين الانتخابات العراقية والانتخابات البلدية في السعودية، فما يجري في الاولى هو اعادة صياغة دولة بأكملها، وقد تكون التجربة العراقية هي الوحيدة في العصر الحديث التي تشهد أكبر عملية تصحيح لمعادلة السلطة، حيث يجري التوسل بأدوات ديمقراطية من أجل تحقيق التوازن داخل الدولة وتوزيع الحصص السياسية وفق معطيات سكانية وسياسية محسوبة بإتقان تعكس نفسها بجلاء في العملية الانتخابية وصناديق الاقتراع.. هناك دول شهدت إعادة صياغة لمجمل هياكلها ولكن إنتهى الحال الى تفككها الى أجزائها الاولى، كما حصل في دول المعسكر السوفيتي، ومثالها البارز يوغسلافيا. في أفغانستان أيضاً سقطت الدولة وتفسخت هياكلها ولم تتفكك الى أجزاء، فق جرى استبدال كل أوجه الدولة وأجهزتها في إطار عملية صياغة للدولة ولكن ليس على أساس تغيير دراماتيكي في التوازنات الداخلية القبلية والسياسية والمناطقية، والسبب في ذلك يعود الى التوطؤات الداخلية في افغانستان والحائزة على مورد اجماع بين الطيف السياسي والقبلي الافغاني.

إن الاختلال السياسي في العراق بلغ درجة كارثية بحيث تطلب الحل عملية قلب تام لأسس النظام السياسي القائم وارساء قواعد جديدة للحكم تقوم على الاعتبارات الداخلية السكانية والانتماءات المذهبية والقومية، أي وفق التنوع الداخلي بكافة أشكاله.

في السعودية هناك مشكلة حكم، وهناك أيضاً اختلال عميق في معادلة السلطة، ولربما يمكن العثور على أوجه شبه بين نظامي الحكم في العراق والسعودية من حيث احتكار فئوي للسلطة، واستئثار منطقة ومذهب بمقدرات الدولة، وبالتالي فإن الحاجة الى صياغة جديدة للنظام السياسي تظل قائمة على الدوام.

إن البون شاسع بين مؤديات الانتخابات العراقية والانتخابات البلدية في السعودية، ففي الاولى تجري عملية تقاسم فعلي للسلطة، ويتحقق مبدأ المشاركة الشعبية في النظام السياسي، بينما الأمر في الانتخابات البلدية السعودية مختلف، حيث يفسح الطريق لحد أدنى من المشاركة الشعبية في صناعة قرارات غير مصيرية وغير سياسية، وانما مقتصرة على الحدود المدنية الخدماتية. في واقع الأمر، أن الانتخابات البلدية في السعودية خفّضت التطلع السياسي لدى القوى الشعبية عن طريق نقل المطالب الاصلاحية من الحيز السياسي الوطني الى الحيز الخدماتي المدني المناطقي. فبينما ناضلت القوى السياسية الوطنية من أجل الدفع باتجاه اصلاح النظام السياسي، ووضع دستور واضح وفعّال، وتشجيع الانتخابات على المستوى الوطني وتحديداً في اختيار أعضاء مجلس الشورى، فإن الانتخابات البلدية قلّصت مجال الهامش الاصلاحي، مستبعدة الى حين الحديث عن إصلاحات أخرى في مجالات ذات صفة وطنية.

صحيح أن الطبقة السياسية تدرك تماماً أن المكبوت الاصلاحي يتسرب بقدر ما في البرامج الانتخابية التي يعلن عنها المرشحون للمجالس البلدية، وبالتالي فهم يتجاوزون الحدود المرسومة لمثل هذه الانتخابات، وهو ما يفسر الى حد ما القيود المفروضة على نشاط المرشحين، ومدة الحملات الانتخابية، وحتى المناشط التوعوية الخاصة بالانتخابات. ولكن من الضروري أيضاً الفات الانتباه الى أن أوضاعاً سائلة كالتي تعيشها المنطقة والعالم وخصوصاً فيما يرتبط بتشجيع العملية الديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط، ستفضي الى خروج القطار السياسي عن سكته المقررة، ولن يكون بمقدور الطبقة السياسية في السعودية أن تكبح التطلع الاصلاحي لمديات طويلة.

لعل من الاشارات الخطيرة التي يمكن ان تنبّه اليها الانتخابات البلدية في السعودية أنها قد تكرّس النزعات الفئوية والاقليمية، كون الانتخابات تبدأ من منطلق مناطقي، وبالنظر الى مشاعر الغبن والاضطهاد التي تعيشها كثير من المناطق، فإن وجود مثل هذه الفرصة يلبي بعضاً من المشاعر المقموعة وأيضاً الطموحات السياسية المغيّبة لعقود طويلة، فيما يعرف لبنانياً بفترة الاستحقاق.. فالجميع يحاول أن يدخل الحلبة بأكبر قدر من التجهيزات الثقافية والاجتماعية والمادية، والسعي لتعبئة الشارع بصورة شاملة للعبور نحو المشاركة السياسية.

الانتخابات البلدية قد تكون مسلوبة المفعول السياسي ظاهراً وراهناً، ولكنها بالتأكيد تختزن مؤديات سياسية كبيرة في المستقبل القريب، فالذاكرة الاصلاحية والوعي الشعبي بهذه الذاكرة يجعل من المستحيل الانشغال بالادنى عن الاعلى خصوصاً وأن فرص تحقيق الاخيرة لم تنعدم تماماً، فظروف الداخل والخارج لا تكف عن دعم المسار الاصلاحي وستجبر الطبقة السياسية على الاستجابة طوعاً أو كرهاً لعملية إصلاحية غير متوقفة، وإن دسّت اليها من يحاول إبطاء حركتها او تعطيلها مؤقتاً.

لقد نجحت العائلة المالكة ظاهراً ومؤقتاً في تغيير المشهد الاصلاحي الوطني منذ اعتقال رموز التيار الاصلاحي العام الماضي، وكان ذلك إيذاناً بتنفيذ أجندة إصلاحية زعماً مصممة حسب المقاييس والمواصفات السلطوية، وقد حققت بلا شك العائلة المالكة بعض أغراضها من عملية وصفت بأنها خزي على جناح الامير عبد الله الذي برز للعالم الغربي بوجه اصلاحي ثم خانته لياقته السياسية والادارية في أن يدافع عن إثم اقترفه الجهاز الامني بضربه التيار الاصلاحي.. فهذا التيار ساهم في إعادة اللمعان الى صورة السعودية في الخارج من خلال الاداء الراشد لرموز الاصلاح الوطني في السعودية، حين نبّه هؤلاء وسائل الاعلام والحكومات الغربية الى أن في هذا البلد تياراً شعبياً واسعاً يبارك الاصلاح وينبذ العنف، وأن وسائله في الاصلاح تماثل وسائل المصلحين في العالم الغربي كونها سلمية وديمقراطية وراشدة.

يبقى أن الانتخابات البلدية قد تحقق بعض التقدم في العملية الاصلاحية، ولكن ستكون مجرد بداية متأخرة في العملية الاصلاحية الوطنية، وفي الوقت نفسه سيظل تغيير معادلة السلطة هو المطلوب في عملية الاصلاح، من أجل توفير ضمانات حقيقية للاستقرار والتعايش والوحدة.