بانتظار ولادة خطاب وطني في السعودية
مصير الثقافات الخاصة
الثقافات الخاصة هي الأكثر انتشاراً في السعودية، فلكل جماعة
مصادرها الثقافية الخاصة التي قد تتناقض جزئياً أو كلياً ليس مع
الثقافات الاخرى بل مع أي خطاب ثقافي وطني يستهدف التسامي فوق
الثقافات الخاصة. إن تضخم الخطابات الثقافية الخاصة وتغلغها
الواسع داخل الجماعات يعبّر غالباً عن الاحساس بخطر ثقافي يحدق
بوجوداتها ومكاسبها، وفي الوقت نفسه يعكس النزوع المتنامي لدى
خطاب ثقافي معين نحو فرض نفسه على باقي الخطابات.
وعلى أية حال، فإن المناخ الثقافي المتلبِّد في السعودية ينذر
دائماً بالمزيد من الاستقطاب الثقافي الحاد وقد يتسبب في
انسدادات خطيرة في قنوات التعبير الثقافي الوطني. إن جاذبية أي
خطاب تنبع من قدرته على الانتشار في محيطات ثقافية تشهد فوراناً
متصلاً، والتصالح معها بحيث تكون مصدراً مشتركاً لأنظمة ثقافية
متنوعة.
نلحظ بأن الثقافات الخاصة في المملكة شهدت ازدهاراً كبيراً مفيدة
من التغييرات الدراماتيكية في الاوضاع السياسية المحلية
والاقليمية والدولية، مما أعطاها زخماً هائلاً وسط البيئات التي
ولدت وتنامت فيها، وهذا بلا شك قد ألقى تبعات ثقيلة ومسؤوليات
كبيرة على مهندسي الخطاب الثقافي الوطني، إذ لا يمكن في ظل
تفجّر الخطابات الثقافية الخاصة أن ينتج خطاب ثقافي وطني بوسائل
تقليدية أو حتى عصرية بسهولة ما لم يستوعب مجمل التطورات
الثقافية والسياسية المحلية والدولية الراهنة والمستقبلية..
لقد
أجّلت الثقافات الخاصة في السعودية فرص تبلوّر خطاب ثقافي وطني،
بفعل تضخم الخطاب الثقافي التقليدي، الذي حمل تهديداً مباشراً أو
مبطّناً لتلك الثقافات، وساهم في تأكيد وشرعنة انتشارها
وتجذّرها، الأمر الذي جعلها تعزز تحصيناتها الثقافية ضد الخطاب
الثقافي المسنود رسمياً. وكرد فعل طبيعي، فإن الثقافات الخاصة
تولّد معها مضادات ضد غيرها ولكن حين يكون هناك تهديد ثقافي فإن
هذه الثقافات تتحول الى ما يشبه بكانتونات مغلقة ولكن تشهد
بداخلها حراكاً مضطرماً يستهدف بدرجة أساسية تحييد التأثيرات
المحتملة لخطابات ثقافية اخرى مختلفة او مضادة.
طيلة العقود الماضية كان هناك خطاب ثقافي رسمي تسنده الدولة
وتسوّده على المستوى العام باعتباره جزءا من ماكنتها السلطوية،
فيما كانت الثقافات الاخرى الخاصة تعمل بصورة منفردة رغم
التقييدات الصارمة المفروضة عليها، وهي ثقافات كانت تستبطن ردود
فعل مضادة على خطاب ثقافي صنعته الدولة ووفّرت له فرص الانتشار.
الآن، وبعد مضي تلك الفترة الطويلة هناك عوازل ثقافية محكمة
التحصين قد أقامتها الانظمة الثقافية المحلية، وإن إزالتها تتطلب
جهوداً جبّارة ومخلصة ومطمئنة من قبل الطبقة الحاكمة أولاً،
كونها تتحمل الدور الرئيسي في صناعة الخطاب الثقافي الوطني.
الحوار الوطني بمؤتمراته الثلاثة كان مناسبة لتدشين أول قاعدة
ثقافية يمكن الانطلاق منها نحو صياغة خطاب ثقافي وطني وتخفيف حدة
التمظهرات الثقافية الخاصة. ولكن ما حصل ان المؤتمرات تحوّلت الى
مضمار لاستعراض الثقافات الخاصة وليس لالتقائها فضلاً عن الاتفاق
على الحد الادنى بين رعاتها من أسس خطاب ثقافي وطني مشترك.. فقد
عاد رعاة الثقافات الخاصة من المؤتمرات وهم أشد التصاقاً بالذات
الثقافية الخاصة، سوى بعض التعبيرات المبهمة وذات الصبغة
الدبلوماسية بحسب مقتضى مسمى الحوار الوطنى! والتي تبعث ـ اي تلك
التعبيرات ـ مجرد إشارات إطمئنان خافته وفي بعض الاحيان غامضة.
كان
يفترض من مركز الحوار الوطني أن يولي ضمن استهدافاته الرئيسية
اهتماماً بتنشئة خطاب ثقافي وطني، لا أن يكون مجرد إطار لملتقى
الفرقاء. فما خططت له الحكومة قبل أكثر من عقد لاشاعة ثقافة
وطنية لم تثبت النتائج العملية نجاحها، والسبب في ذلك هو توهُّج
الثقافات الخاصة فضلاً عن أن الثقافة الوطنية المزعومة لم تكن
تمتلك مقومات وطنية حقيقية، فقد أعيد طلاء الخطاب الثقافي
التقليدي بلون وطني فحسب، فيما بقي جوهر الخطاب متماسكاً،
والقائم على أساس الحق التاريخي للعائلة المالكة، والاخضاع
القهري للاقاليم، والوعي الديني والتاريخي المستمد من المصادر
التراثية الخاصة.
حين
تستمد الثقافات الخاصة قوتها من عناصر مناهضة لما هو مشترك ووطني
يصبح بناء الخطاب الوطني عملية عسيرة للغاية، سيما حين يكون خطاب
الدولة نفسه محرّضاَ على النكوص الثقافي والارتداد للذات كملجأ
طبيعي وأخير بالنسبة للجماعات. في حقيقة الأمر، أن الخطاب
الثقافي للدولة شجّع أغلب الجماعات على إطلاق موجات ثقافية مضادة
وتحفيز مجمل الرأسمال الثقافي الخاص بها كرد فعل وقائي ضد خطاب
الدولة، بما فيه من نزعة اقتلاعية لكل مختلف ثقافي آخر.
ولكن السؤال: هل الخطاب الثقافي الوطني مناهضاً ومتناقضاً
بالضرورة مع التنوع الثقافي الداخلي؟
والجواب لا، لأن مكونات الخطاب الثقافي الوطني مستمدة من خطابات
ثقافية متنوعة تستهدف صناعة نسيج ثقافي مشترك، وثانياً لأن
الاقرار بالتنوع وحده الحافز على القبول بالخطاب الثقافي الوطني،
لأنه خطاب كما اسلفنا يجد فيه الجميع مشتركات ثقافية هي في الاصل
مشتقة من الثقافات الخاصة ولكن جرى تخصيبها في فترة استجابة
جماعية وهدوء نسبي لتكون مؤهلة بدرجة كافية للاندكاك في بنية
الخطاب الوطني.
وقد
يجادل البعض بأن الخطابات الثقافية الخاصة لا تشتمل بالضرورة على
عناصر قابلة للاستعمال في عجينة الخطاب الوطني، فهي خطابات تأسست
في الاصل أو نشأت كرد فعل على منابذة الآخر والقطيعة معه، فكيف
يمكن للاقصائي أن يكون متصالحاً مع الآخر ثقافياً فضلاً عن أن
يكون عضيداً له. وهذه المجادلة تستند بدرجة أولى الى المعطيات
الثقافية الخاصة بالخطاب، وليس الى مشتقاتها اللاحقة، إذ لا يمكن
لأي خطاب ثقافي أن يتصالح مع الآخر مع احتفاظه بنظامه التأويلي
الخاص، فلا بد أن يعاد إنتاج النظم الثقافية وفق متطلبات جديدة
ومرئيات منفتحة تأخذ في نظر الاعتبار رغبتها في التعايش مع
الآخر.
في
الوقت نفسه، ليس الخطاب الوطني وحده المراد تسويغ تنظيمه
واشاعته، لأن ثمة مقدمات أساسية لصناعة مثل هذا الخطاب وتتصل
بدرجة أساسية في المناخ الثقافي الملائم لانجاب خطاب بصفة وطنية،
فالثقافات الفرعية او الخاصة مازالت مستحكمة ومتراصة وتتمتع
بدرجة عالية من التجانس الداخلي، أضف الى أنها تشكل الرابطة
الوثيقة لأفراد ينتمون لجماعات موحدة في داخلها. إن النظم
الثقافية السائدة والمسؤولة عن صناعة خطابات خاصة لجماعات تعيش
صراع هوية ووجود تكون فيها الممانعة على أشدها ضد نوايا مازالت
مرتابة إزاء بلورة خطاب وطني عام.
ربما يوحي هذا الى البعض أن غاية الخطاب الوطني تتحقق بتفتيت
الثقافات الفرعية أو الخاصة التي أشير لها قبل قليل، بيد ان هذه
ليست سوى قراءة خاطئة للحالة. فغاية الخطاب الوطني هي المساعدة
على صياغة خطاب متجاوز للثقافات الخاصة ولكن في الوقت نفسه
مشتقاً منها أي بالتعبير الشائع ان الثقافات الخاصة تصبح في طول
الخطاب الوطني وليست في عرضه، أي ليست متعارضة معه بل تشكل
امتداداً لهذا الخطاب. إذ لا فائدة من خطاب يحقق وجوده عبر تقويض
الخطابات الاخرى، وخصوصاً في حالة السعودية التي لم تنفك فيها
الثقافات الخاصة تمد معتنقيها بكل أسباب القوة والمقاومة
والهوية. لقد نجحت العديد من الدول الديمقراطية في بناء خطاب
وطني مع الابقاء على تجاور وتعايش الخطابات الثقافية الفرعية.
وبطبيعة الحال لا يمكن الكشف عن الصلة بين الخطاب الثقافي الوطني
والخطابات الثقافية الفرعية ما لم تتأكد لدى الجميع المنفعة
المرجوّة من وجود الخطاب الوطني، لأننا بهذا الاكتشاف ندرك بأن
ثمة ظروفاً جديدة قد خلقت لتوليد مثل هذا الخطاب، أو قد بات
الجميع على قناعة بأن ثمة حاجة للبدء بمراجعات جادة لفتح الحدود
المغلقة بين الثقافات الفرعية من أجل تزويد المنبع الثقافي
الكبير الذي منه يولد الخطاب الوطني.
في
ظل الارتياب والنبذ الثقافي المتبادل تصبح مهمة صانعي الخطاب
الوطني شبه مستحيلة، لأن الجماعات لا تمس أغلى مكوّن لهويتها
ومصدر تماسكها دون أن تكون على يقين تام بأن البديل يوازي في
مكاسبه ما تجنيه الجماعات من منابعها الثقافية الخاصة، بل ولا
تفرط حتى في الاجزاء غير المفعّلة منها بما في ذلك المدرجة في
خانة الملهمات والتوسمات الروحية والاسطورية التي يتم استعمالها
والتوسل بها في فترة الاستقطاب الثقافي الحاد والتوترات
الاجتماعية والسياسية التي تسود الجماعات وتحكم علاقتها مع
الدولة.
تشجيع الخطاب الوطني لا يتوقف على مجرد اطلاق النوايا الطيبة، أو
التصريحات المتفائلة التي لا تجد منفذاً سهلاً لأجهزة الدولة
ومؤسساتها الثقافية والاعلامية، بل على العكس قد تترك تلك
التصريحات تأثيرات عكسية حين يكون التصريح معزولاً عن أثره
العملي، فحينئذ تبالغ الجماعات في تكثيف حضورها الثقافي كتعبير
عن الاحساس بالريبة والخوف مما تخفيه تلك التصريحات، أو قد يكون
مؤشراً على ضعف الدولة، وبالتالي اطلاق العنان للثقافات الخاصة
كيما تعبِّر عن نفسها بصورة ارتدادية وكاسحة، تماماً كما يحصل في
انبعاث الهويات الفرعية القبلية والمذهبية كرد فعل على تصدع هيبة
الدولة وسطوتها.
الخطاب الديني الرسمي.. أولاً
لن
يكتب لأي خطاب ثقافي وطني النجاح ما لم يخضع الخطاب الديني
الرسمي لعملية مراجعة جادة وشاملة.. وكونه يمثل الركن الاول
لمشروعية الدولة وهويتها الايديولوجية، فإنه يتحمل القسط الأكبر
في أزمة الخطاب الثقافي الوطني، باعتباره كان مسؤولاً عن البناء
الايديولوجي للدولة منذ نشأتها.. وبالتالي يمكن القول بأن الخطاب
الديني يمثِّل أحد المعوقات الكبرى لتطوير خطاب ثقافي وطني
وتعميمه.. إن مضخات الخطاب الديني المتشدد تعمل بأقصى طاقتها..
فذات اللغة التحريضية، وذات قنوات التعبير عنه، وذات مضلة
الحماية المحيطة به شكّلت مجتمعة الماكنة الثقافية الكبرى في
البلاد.. وحتى الآن، لم يتغير شيء لافت في الخطاب المنبعث من هذه
الماكنة، والمنبث في الفضاء الثقافي المحلي.. يكفي للوقوف على
سطوة هذا الخطاب مقاومته العنيدة إزاء محاولات الاصلاح المضنية
من داخله،
فليس بإمكان أحد الانفلات من مجال تأثير الخطاب المتشدد، لكثرة
الحراس الصامدين في ثغور العقيدة.. إن من نجى بنفسه قد أصابته
سهام الطرد والنبذ، فالطاردون العقديون يمسكون بصكوك البراءة من
أولئك المنعتقين من هيمنة الخطاب العقدي السلفي.
إن
طبيعة الثقافات المغلقة بإحكام تعين على تشكيل قوة دفاعية حصينة
أمام محاولات الخروج منها أو عليها، فلا تسمح للخاضعين تحت
تأثيرها أن يفلتوا منها الا بعد عملية سلخ لسمعتهم والقذف بهم
بعيداً عن المجال الحيوي لتلك الثقافة المتصلّبة، ليكونوا عرضة
لنبال الجهلة وسهام البلهاء المملؤين بوهم الحقيقة الايمانية.
إن
الثقافة الوطنية التي أريد ترويجها أو حتى اقرارها في المنهج
التعليمي الرسمي بقيت رهينة لشروط الحارس الديني، المكفول من قبل
الدولة نفسها، الأمر الذي أحبط جدوى إشاعتها، فتأثيراتها بقيت
قاصرة عن بلوغ الهدف الطموح المأمول تحقيقه، ولا ننسى أن صانعي
هذه الثقافة هم أوفياء لخطاب ثقافي تقليدي وخاص، فهم ليسوا نخبة
متنوعة ممثلة للثقافات الخاصة.
لقد
ظل الخطاب الديني الرسمي محتفظاً بكافة وسائل التعبير عن نفسه،
والذي يسمح بانبثاثه الواسع النطاق مستعيناً بموارد الدولة ذاتها
التي مافتئت تمدّه بالتسهيلات التقنية والمالية رغم ما تبشّر به
الدولة من خطاب وطني غير مرشح للولادة في ظل هيمنة الثقافة
التقليدية الرائجة عبر وسائل الاعلام الرسمية بكافة تنوعاتها. إن
التدفق الفعّال لمفردات خطاب ديني ذي طبيعة انعزالية وفئوية لا
يرحب بانبثاق خطاب ينازعه السيادة والمشروعية.
وما
لم تخضع الثقافات الخاصة لعملية نقد ذاتي تبدأ أولاً بالثقافة
الدينية الرسمية التي تحظى برعاية الحكومة، فإن خطاباً ثقافياً
وطنياً مشتركاً لن يقدَّر له ولادة طبيعية وسهلة، إذ أن مكونات
هذا الخطاب مازالت مفقودة بل وحتى الأرضية الصالحة لنموه أيضاً
لا تزال معدومة، وبالتالي فإن تخصيب الخطاب الثقافي الوطني إنما
يتم جنباً الى جنب عملية الإنضاب للعناصر الانشقاقية في الثقافات
الخاصة.
التحرير
|