هناك
معضلات في اعتبار العائلة المالكة رمزاً وطنياً
دعاة الاصلاح في السعودية: قبلوا بالرمز والرمز لم
يقبل!
أ.د. مضاوي الرشيد
بعد
انقضاء أكثر من عام على سجن دعاة الاصلاح الدستوري في السعودية
يتضح لنا بشكل جلي ان النظام لا يخاف ما يسميه بالارهاب مثلما
يخاف من الرؤية السياسية الواضحة وخاصة تلك التي تطرح موضوع
الاصلاح على الساحة بشكل علني جاء نتيجة جهود جماعية لنخبة فكرية
وثقافية وسياسية وحتي دينية.
فبينما تحاول الدولة احتضان العنف عن طريق الحلول الأمنية وجهود
الوساطة نراها لا تبالي بالرأي العالمي والذي شجب سجن الاصلاحيين
الثلاثة عبد الله الحامد، متروك الفالح وعلي الدميني، هذا الشجب
تجاوز العمل الذي تقوم به مؤسسات حقوق الانسان العربية
والعالمية، اذ ان قضية المساجين هؤلاء قد تبنتها جمعيات علمية
واكاديمية منها جمعية دراسات الشرق الاوسط وغيرها من الرابطات
المهتمة بشؤون العرب والمسلمين، ورغم الرسائل التي طالبت
بالافراج عن المساجين نرى ان قضيتهم ما تزال سجينة الارادة
الملكية ورهينة الحزبية التي تعشعش في رأس الهرم.
ورغم لوائح الاتهام الطويلة نجد ان سجن الاصلاحيين انما هو ردة
فعل على وجود نظرية سياسية تتجاوز ما اعتاد عليه النظام وفكره،
حيث ان هذا النظام لا يعرف من السياسة وفكرها سوى الخلع والبيعة،
وقد استعمل النظام هذه الازدواجية خلال مراحل تاريخية مختلفة. خذ
مثلا الصراع على السلطة بين الاخوين السعوديين عبدالله وسعود عام
1870، او الصراع بين سعود وفيصل في 1964. هذه الحالات من الصراع
الداخلي على السلطة حسمت بخلع ولي امر ومبايعة آخر دون اي جدل او
مناقشة، اذ ان ما يسمي بأهل الحل والعقد غير قادر في مثل هذه
الحالات الا على تثبيت الحاكم في حكمه بعد الاستيلاء على السلطة
خوفا من الفتنة.. هذا الخوف الذي تحول خلال العصور السابقة الى
حالة مرضية اشبه ما تكون بالفوبيا، وهي نوع من الخوف غير المبرر.
فكر
الخلع (الخروج) والبيعة مرتبط ايضا بفكر شرعية السيف كعامل اساسي
في تثبيت الحاكم وبفكر شرعية التعيين اي بمفهوم وراثة الحكم كأن
يقوم حاكم حالي بتعيين خليفته بغض النظر عن صلاحية هذا الخليفة
وقدراته. هذا الموروث الثقافي المعتمد على السيف والتعيين ادي
الى تهميش اهم عامل يمكن له أن يحل أزمة السياسة والاصلاح في بلد
كالسعودية وهو عامل الشورى الذي يسبق البيعة. بتغييب الشورى
الحقيقية ارتبطت السياسة في السعودية بمفاهيم ومصطلحات سلخت عن
بيئتها التاريخية الماضية واصبحت مسلمات خارجة عن التاريخ، تستغل
بأبشع الاساليب وتمارس بعنجهية واستعلائية تحت مظلة دينية يعرف
الجميع انها اداة بيد السلطة توجهها الى حيث مصدر الريح.
جاء
خطاب الاصلاح الدستوري والمجتمع المدني بثقافة سياسية ليست
بالجديدة في المحيط العربي ولكنها بالفعل صدمة لرموز النظام
السعودي. هذه الثقافة ليست بالغريبة ايضا اذ حرص من بلورها على
ان ينتزعها من قراءة عقلانية مفصلة لنصوص قديمة لها قدسيتها عند
الجميع. رغم ذلك سجن دعاة الاصلاح ووجهت لهم تهم كثيرة لا مجال
لسردها الان.
ولكن يجب الاشارة الى نقطتين هامتين في الخطاب الاصلاحي الدستوري
اولا: تضمن الخطاب نقلة نوعية من فكر الخلع والبيعة الى فكر بناء
المؤسسات التي تضمن الاستمرارية في الحكم على صعيد الدولة
واجهزتها. هذه الاستمرارية هي الملاذ الوحيد الذي يجب ان يلجأ
اليه كل من خاف من الفتنة والفتن اذ انها تقر بزوال الشخصيات
واستمرارية المجتمع، بل هي تفصل بين ديمومة المجتمع وزوال الحاكم
فأي خلع او بيعة لا تحصل الا بتدخل مؤسسات شورية وليس نتيجة
استقطاب لرموز معينة من قبل الافراد المتصارعين على السلطة
والمتنافسين على كرسي الحكم.
ثانيا: تضمن الخطاب الدستوري اقرارا صريحا وعلنيا من قبل
الموقعين عليه بالالتفاف حول الاسرة الحاكمة والتي اعتبروها رمزا
للوحدة الوطنية ورغم هذا لم يسلم دعاة الاصلاح الثلاثة من السجن.
تجربة السجن هذه اثبتت حقيقة مهمة تدور حول قبولهم بالرمز وعدم
قبول الرمز بهم. هذه الحقيقة تفتح ملف الرمز والرمزية والذي يجب
ان يتعاطي معه اصحاب الخطاب بنوع من مراجعة المفاهيم واعادة
صياغة الخطاب والموقف.
ما
هو الرمز؟ دراسات الرمز والرمزية تفتح المجال للخوض في ماهية ما
يسمي بالرمز وهو بتعريفه البسيط يدل على شيء غير ذاته ومعنى
يتضمن كل او بعض خصوصياته، ومن اهم خصائص الرمز ان تشترك في صنع
معناه شريحة كبيرة من المجتمع ويتقبله طيف كبير من البشر. كذلك
من خصائص الرمز ان يكون بعيدا عن التشكيك اي ان يكون متفقا عليه.
لنأخذ مثلا كيف ان الأسد رمز للقوة، والثعلب رمز للمؤامرة
والخيانة، والسيف رمز للقوة، والتاج رمز للاستقلالية.. وتستعمل
هذه الرموز من الحيوانات والأشياء للدلالة على المعاني المختلفة،
فنطلق صفة الأسد على الرجل الشجاع، والثعلب على المراوغ الذي
ينسج المؤامرة في الخفاء، وتلبس ملكة بريطانيا تاجها على رأسها
لترمز لاستقلاليتها واستقلال دولتها وهلم جرا. وبالاضافة الى هذه
الرموز تستعمل المجتمعات الالوان لترمز لمعان كثيرة فالأسود رمز
للموت، والأحمر للخطر والدماء، والأبيض للسلام. تبقي هذه الرموز
محصورة في بيئة محدودة الى ان يعمم معناها ويشترك في فهمها
الكثيرون، ويتفق عليها الجميع، ويفهم المجتمع الدولي ان رفع
العلم الأبيض هو طلب للسلام او الاستسلام، والمهم في الموضوع هو
الإتفاق على المعنى؛ ولولا هذا الاتفاق يبقى الرمز محصورا في
بيئة ضيقة ولا يعمم مفهومه على الجميع.
واذا عدنا الى موضوعنا نجد ان دعاة الاصلاح الدستوري قد اعتبروا
العائلة الحاكمة رمزا للوحدة الوطنية، وربما ان هذا ما اتفق عليه
الموقعون على عرائض الإصلاح، علما منهم بأن الوضع الحالي لا يسمح
الا بمثل هذه الخطابات، ولكن هناك بعض المعضلات التي تتصل بمفهوم
العائلة كرمز والعائلة كعامل مهم في الوحدة الوطنية. يمكن تلخيص
هذه المعضلات كما يلي:
اولا: لا يوجد عائلة واحدة تمثل الرمز ولكن هناك عدة رموز داخل
العائلة لكل واحد منها خصائص قد يشترك بها مع البقية وقد يختلف
عنهم. فعن أي رمز نتحدث هنا؟ ومن هو الرمز المتفق عليه من قبل
المجتمع ليس كله ولكن اكثريته؟ هل هو رمز التمدن والانفتاح
والعصرانية المتمثلة بتشجيع نمط حياتي معيشي معين ام هو رمز
التشدد والبطش والتضييق على حريات البشر؟ ام هو رمز اللامبالاة
وحياة الترف والرفاهية ورحلات القنص والسياحة؟ هل هو يا تري رمز
قديم من الجيل الاول ام انه حديث من الجيل الثاني؟
ثانيا: يجب ايضاح العلاقة بين الرمز (ان تم الاتفاق على شخصه)
والوحدة الوطنية. يعتقد دعاة الاصلاح ان بقاء الرمز امر ضروري
وسبب رئيس خلف الوحدة الوطنية المزعوم وجودها حاليا. وهنا لا بد
ان نسلط الضوء على هذه العلاقة.
ان
ربط الوحدة الوطنية برمز بشري زلة غير مقبولة من دعاة الاصلاح اذ
ان البشر زائلون والوطن يبقي ـ ليتهم اتخذوا من الاماكن المقدسة
الرمز المطلوب للوحدة الوطنية. فقدسية الدين والمكان ستبقي اما
البشر فهم حالة طارئة مرتبطة بحقبة تاريخية تعتبر قصيرة في تاريخ
اي شعب. ان اي قراءة لتاريخ توحيد المملكة لا تعترف بعامل الدين
كرمز فوق كل الرموز هي قاصرة عن فهم الماضي. فنجد والحجاز
والشرقية لم تتوحد بسبب رمزية العائلة الحاكمة او حتي سيفها بل
توحدت بسبب رمزية الدين وقدرته على تحريك المجتمع بكافة اطيافه،
فهل يا تري الدين بشريعته واماكنه المقدسة لا يخلق الوحدة
الوطنية وهو بحاجة لرموز بشرية؟ هذه الاسئلة كانت تدور في فكر
الاصلاحيين ولكن اثباتهم في خطاباتهم لرمزية بشرية لا يمكن ان
يفسر الا من باب الحيطة والحذر والتأني في خطوات المجابهة
الحتمية والمتوقعة مع السلطة السياسية، وهذا ما ذكره عبد الله
الحامد اذ انه معروف بعلمه وقدرته على التحليل وبلورة الرؤية حين
نبه ان المسيرة طويلة والمواجهة حتمية وحذر من تعرض بعض
الاصلاحيين للسجن وغيره من اشكال الضغط المباشر وغير المباشر.
وها هم الاصلاحيون قبلوا بالرمز والرمز لم يقبل.
ثالثا: لقد اثبتت الاحداث المتتالية خلال اكثر من سبعة عقود ان
هذا الرمز المزعوم لم يكن عامل وحدة، بل عامل تقسيم للمجتمع حين
اتبع سياسة فئوية على صعيد المناطق والجماعات التقليدية كالقبيلة
مثلا والحديثة كالنخب الثقافية الجديدة التي افرزتها التنمية
والتعليم منذ منتصف القرن العشرين.
واذا اخذنا دراسات علمية كالتي قام بها الدكتور الفالح والصيتان
مثلا نجد انهما يلفتان النظر الى التفاوت المناطقي والبشري الذي
كرسه هذا الرمز لان الرمز المزعوم هذا لا يستطيع ان يحكم الا
بالتفرقة المناطقية حين يرفع منطقة على اخري او نخبة اجتماعية
على مثيلتها في منطقة اخري. وممكن ان نذهب الى ابعد من هذا اذ ان
النظام اليوم يحاول ان يقسم ويفرق افراد العائلة الواحدة من خلال
عرائض يعرضها على بعضهم تتضمن ادانة لابنائهم واخوانهم وحتي
بناتهم وكل من اتخذ موقفا صريحا وواضحا من هذا الرمز. اليوم
الرمز المزعوم عامل فرقة وتقسيم بل هو عامل فتنة حقيقية خاصة اذا
استعرضنا كيفية تعامله مع التيارات السياسية الداخلية من
الاسلامية الى الليبرالية. من خلال عملية استقطاب مدروسة ومبرمجة
تحولت هذه التيارات الى اداة تستغل من قبل السلطة لضرب بعضها
بالبعض ولضرب الرموز الاخري الصغيرة في باقة الرمز الكبير.
إن
هيمنة الرمز المزعوم هذا على كل مرافق الحياة والمؤسسات التي من
المفترض ان تكون مدنية كأندية الثقافة والرياضة والصحافة وغيرها
بالاضافة الى المؤسسات الخيرية وحتي الاهلية أدت الى تناحر
وتنافس بين هذه المؤسسات غذته تعددية الرمز والذي له مصالحه
الخاصة به بل تعدته الى استغلال هذه المؤسسات في حربه على الرموز
الاخري. ونري اليوم ان كل رمز اصبحت له حلقة اجتماعية يستعملها
كبطاقة ضغط على رمز آخر في سلسلة الرموز. ان تعددية الرموز
واستقطابها لهذا الفريق او ذاك انما هو عامل ابعد ما يكون عن
الوحدة الوطنية، بل هو المحرك الاول والاخير للانقسامات والتشظي
وحتي المواجهة بين افراد المجتمع وتكتلاته المختلفة، هذه
المواجهة التي قطعت اشواطا بعيدة عن الحوار والتقبل بالتعددية
المناطقية والثقافية والفكرية بل اصبحت حتمية لا تقبل ان تبقي
خفية وهي تظهر بأبشع صورها خاصة في ما يسمي بمنتديات الحوار
الالكترونية هذه المنتديات التي تتبني تقديس هذا الرمز او ذاك
ومن ثم تطلق العنان لاصابعها على الكيبورد لتخط اكبر شرخ في
المجتمع خاصة عندما تلعب على احقاد دفينة وكراهية غذتها سياسات
الرمز او الرموز المتعددة.
رغم
كل ما سبق ذكره يظل دعاة الاصلاح في السجن الرمز الوحيد لجرأة
حقيقية ورغبة عميقة ومبادرة صادقة لطرح رؤية سياسية تتجاوز
محدودية رؤية النظام ومفهومه للسياسة هذا المفهوم الذي لم يتجاوز
مفهوم الخلع والبيعة والذي رسخ مفهوم الولاية بالاستيلاء
والتعيين متجاهلا الشوري بل ضاربا بها عرض الحائط.
(عن القدس العربي ـ 2005/03/21
)
|