الإنتخابات البلدية: محفزات صراع محلي، وولادة
وجوه جديدة
الإنتخابات البلدية التي جرت في مناطق من المملكة ومن المقرر أن
تستكمل هذا الشهر فجّرت نزعات كامنة، وصراعات داخل التيارات
الفكرية والسياسية والدينية في كل المناطق تقريباً؛ الى حد أن
البعض اعتبر أصل الإنتخابات سبباً للتدابر والتقاطع وازدياد حدّة
الصراع الإجتماعي بلا فائدة؛ خاصة وأن صلاحيات المجالس البلدية
في الأصل قليلة غير مغرية، ولا ننسى أن المجالس سيكون نصف
أعضائها معيّنين من الحكومة (ستقوم على الأرجح بذلك وزارة
الداخلية).
كان
هناك رأي قبل بدء الإنتخابات يقول بإيصال مرشحين سياسيين أقوياء
الى المجلس البلدي بغرض تسييس العملية الإنتخابية ـ بعكس ما
تريده العائلة المالكة ـ وهذا يعني دعم مرشحين (غير خدماتيين)
الى المجلس، في محاولة لاستثمار (نصف الإنتخابات) الى حدّها
الأقصى، بغية تطوير العملية السياسية والإسراع بالإنتخابات
النيابية التي لا تريد الحكومة أن تتحدث عنها البتة.
بالطبع كان هناك كثيرون ممن انزووا بأنفسهم عن الإنتخابات جملة
وتفصيلاً، واعتبروا الإنتخابات البلدية ضحكاً على الذقون، وإحدى
حيل وألاعيب العائلة المالكة لتأجيل الإصلاحات. أيضاً كان هناك
رأي ثالث يرى التعاطي مع الإنتخابات البلدية بحجمها، أي
استثمارها ضمن حدودها، بإيصال بعض الأشخاص الكفوئين لخدمة
المجتمع على الأرض، دون المبالغة في التسييس، ودون المقاطعة
الكليّة. وقد عكست نوعية المرشحين الآراء المتعلقة بالإنتخابات:
فتقدم الى الترشيح (سياسيون) ورجال خدمة؛ وفاز من هذا الصنف وذاك
أعضاء شغروا المجالس البلدية.
لكن
الذي لم يدر بخلد البعض هو النظر الى الإنتخابات في أبعادها
الذاتية، أي تأثيرها المتعلق بالمجتمع المحلي الذي جرت فيه، وليس
فقط علاقتها وتأثيرها على صانع القرار السياسي، أو علاقتها
بالسياسة بشكل عام.
لقد
أحدثت الإنتخابات في بعض المناطق ما يمكن وصفه زلزالاً اجتماعياً
هو في محصلته النهائية منتج طبيعي للعملية الإنتخابية.
فالإنتخابات كما هو معلوم تعكس حجم القوى المتنافسة، وهي إحدى
وسائل الصراع الإجتماعي والسياسي السلمية، أي أنها تنقل الصراع
من صراع عضلات الى صراع صناديق اقتراع. وبالطبع فإن هناك
الكثيرين يصابون بالمفاجآت من نتائج الإنتخابات. وهذا ما حدث في
الرياض وحدث في المنطقة الشرقية سواء لدى السنّة او الشيعة.
ففي
حين يريد الجميع اعتماد وسيلة الإنتخابات لتحقيق الإرادة
الشعبية، وتحسين مستوى الخدمات بالنسبة للإنتخابات البلدية، فإن
النتائج تكون في كثير من الأحيان غير مرضية، الى حد ان البعض ـ
الذي خسر معركة الإنتخابات ـ يتمنّى لو أن العملية برمتها لم تجر
في الأصل. فهي قد كشفت حجم الفرد او الجماعة او التيار الشعبي،
وهي من جهة ثانية اعتبرت (وصمة هزيمة) لم يعتدها أفراد وفئات
اجتماعية، وكأن تلك الهزيمة قاصمة وأبدية، لا يمكن تحمّلها على
المستوى الشخصي.
الإنتخابات وتحفيز مستوى الصراع
قبل
الإنتخابات لم يكن هناك حراك سياسي متميز بين الفئات والأفكار
والجماعات والتيارات السياسية والفكرية والمذهبية، أو لنقل ان
الحراك ضعيف، وان الصراع أخذ أبعاداً ديماغوجية، فأتت الإنتخابات
فنظمتها وقننتها ضمن ضوابط معينة فتوجه الصراع نحو أهداف محددة
خدمت في النهاية مصلحة الجمهور. ولأن المجتمعات المختلفة في
المملكة لم تشهد من قبل انتخابات من أي نوع جزئية او كاملة بلدية
أو برلمانية، فإن صراعها قد اتخذ وجهة طائفية نمطيّة، فكان كل
منها يزعم الحق الى جانبه، ويبالغ في تمثيله للجمهور بنسبة أكثر
من غيره؛ حتى بين التيارات السياسية هناك من اعتقد بأن هذا
التيار اليميني او ذاك اليساري أو ذلك الديني أو الليبرالي أو
العلماني له جمهوره العريض، دون أن يحتاج أحد الى أن يثبت
مدّعاه.
وبالرغم من أن الكثيرين شهدوا خلال العقود الأربعة الماضية
التغيرات الواسعة في المجتمعات السعودية المختلفة من حيث بنيتها
الأبوية، وقياداتها المحلية، وأفكار نخبها وتجددها، إلا أن هذا
التغير لم يختبر إلا متأخراً وبالتحديد في الإنتخابات البلدية
التي كانت لدى البعض بمثابة صدمة كبيرة حين فاز السلفيون/ التجار
في الرياض، وذوي الخلفية الحزبية الإسلامية في القطيف والأحساء.
وفي القطيف تحديداً كانت الصدمة عنيفة، فالفائزون في معظمهم من
التيار السياسي المعارض الذي عاد بعد صلح مع الحكومة عام 1993م،
فلم يفز أحد من التيارات غير الدينية، رغم دخول بعض الرموز في
حلبة المواجهة، كما لم يفز إلا واحد من التيارات الدينية/
السياسية الأخرى؛ بل والأكثر أهمية ربما، أن الإنتخابات أثبتت أن
الطبقة القيادية القديمة القائمة على العشائرية والعوائلية وعلى
العصبيّة السكنيّة ثبت أنها انتهت، وما دلنا على نهايتها إلا
الإنتخابات، رغم أنها شبعت موتاً منذ عقدين من الزمان على الأقل.
هنا، يبدو أن الإنتخابات ستحفّز الصراع بين التيارات من جديد،
وحتى داخل التيار الواحد، الديني او الفكري. مما لا شك فيه أن
الإنتخابات القادمة وعلى أي مستوى كانت ـ بلدي أو نيابي ـ ستدفع
الجمهور الى التشكل والتنظيم والتحالف، فقد أثبتت الإنتخابات
البلدية أن انتصار تيار واحد واحتكاره الغنيمة يحرّض الخاسرين
ليس فقط على القيام بردود أفعال غير متوقعة قد لا تكون عقلانية،
بل قد يعمدون في وقت لاحق الى دراسة الأمور بصورة إيجابية من أجل
منافسة قوية لا شك أنها ستؤتي أكلها بصورة من الصور.
وهذا ـ إن حدث ـ هو أمرٌ إيجابي للغاية؛ فالإنتخابات البلدية ذات
الصلاحيات الضئيلة قد تتحول مع الزمن الى واحدة من الأدوات
المهمة في تأطير قوى المجتمع المدني وصناعة الأحزاب والتحالفات.
وهي
أيضاً إيجابية ـ بغض النظر عن نتائجها الأولية ـ من جهة أن بعض
المجتمعات في المملكة على الأقل قد تسامت على النزعات العشائرية،
وبالتالي فإن طبقة الوجهاء التي كانت فاعلة منذ نهاية العهد
العثماني وحتى أواخر السبعينيات قد فقدت مبرر وجاهتها وزعامتها،
بسبب انتشار التعليم، وبسبب توزّع الثروة المحلية، وأيضاً بسبب
بروز قيادات جديدة من خارج المحيط العشائري العائلي، وهذا دليل
على تطور المجتمع بشكل عام.
|